اعداد: م.د. وليد جاسم الزبيدي
نتشارك اليوم حديثاً قديماً جديداً، وهو مهم في هذه المرحلة التاريخية التي نحياها، ظاهرة حرق الكتب، هذه الظاهرة التي لها أصول وجذور تاريخية عميقة بدأت منذ عصور قبل الميلاد، وفي الحضارات القديمة (الاغريقية، الرومانية، وفي الشرق الأقصى،...) .
ولمعالجة هذا الموضوع ننطلق من الإشكالية التالية : هل يمكن لإحراق الكتب أن يقضي على الأفكار، أم أنه يُسهم في إحيائها عبر استفزاز الوعي الجمعي؟
إن الإجابة عن هذه الإشكالية تستدعي بالضرورة العودة الى التاريخ.
1- أسباب إحراق الكتب:
- الصراعات الدينية:
يقول المفكر التنويري (عبد الرحمن الكواكبي ت 1320هـ/ 1902م) في كتابه "طبائع الاستبداد" : (فكما أنهُ ليسَ من صالح الوصي أن يبلغَ الأيتامُ رشدَهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنورَ الرّعيةُ بالعلم..)، كان الاعتقاد السائد بأن تأثير الكتب السماوية يعد خطيرا، وأنها تشكل تنويرا عقديا، يعمل على الغزو الفكري للناس، أضف الرغبة في محو ديانة معينة وتثبيت ديانة غيرها سواء بالاكراه أو طواعية، وبالتالي يتم إحراق الكتب لانها تعتبر كفرا في نظر التيارات الدينية. من ذلك حرق كتب الفلاسفة في العصور الوسطى من قِبل الكنيسة الكاثوليكية، وإحراق كتب ابن رشد في الأندلس بسبب تهمة"الزندقة". إن الكتب التي يعتقد انها تسير عكس ارادة السلطة يتم ادخالها في هذه الخانة، خانة (الزندقة)، وقد ثبت هذا منذ العصر الأموي، حيث أحرقوا كتاب في السيرة النبوية الشريفة لجامعه (ابان بن عثمان بن عفان ت105هـ) لأنهُ ذكرَ فيه قبائل الأنصار، فوضعوا الكتاب في باب (الزندقة) فتم حرقه. وكذلك تهمة (نظم القرآن) حيث كان يرمى بهذه التهمة كل منْ خرج عن طاعة الخليفة. حتى أصبح الكتاب في أغلب العصور عالةً على صاحبه أو مؤلفه. ثم إن كثيرا من العلماء كانوا لا يظهرون مؤلفاتهم لأنها ستكون حُجّةً عليهم فيُقتلون. بل تطورت ظاهرة الحرق كي تتم بيد المؤلف والكاتب نفسه اعتقادا منه أن اي الكتاب أو مؤلف يدوّنه يبحث في أمور المنطق والفلسفة والتفكّر وإعمال العقل والحجاج المنطقي قد يكون حُجّةً للمناوئين له فيعملون على تكفيره، وقتله. كما تصوّر بعضهم أن ترك الكتب بعد الوفاة، ستطالها يد السرقة، والتحريف والتشويه. ومن أمثلة الحرق للكتب من قبل أصحابها: العالم اللغوي (عمرو بن العلاء) الذي دفنَ كتبه في باطن الأرض. و (داود الطائي)، و(ابو حيان التوحيدي) ، والعالم (ابن رشد) .. وغيرهم الكثير. كل من هؤلاء العلماء قام بإتلاف كتبه إما بالحرق، أو الدفن ، أو الرمي في البحر...
- الصراعات السياسية: من المعلوم تاريخيا، ومن خلال الكثير من الوثائق أن عددا من الأنظمة بهدف توجيه الوعي الجمعي، تلجأ الى إحراق الكتب التي تعارض سياستها، وتوجهاتها. من ذلك على سبيل المثال إحراق النازيبن في ألمانيا (1933) لكتب اليهود واليساريين والليبراليين.
وبالعودة إلى التاريخ الاسلامي ، نجد مئات الشواهد على فعل احراق الكتب حيث اتخذت الأنظمة الحاكمة ذرائع مختلفة لذلك حسب ما ترتأية سياستها ضمن فلسفة لكل عصر ثقافته وسلطته، فالكتب التي لا توافق السلطة وتهدّد كرسي الحكم، في اتجاهات علمية معروفة مثل كتب الفلسفة والمنطق، يتم التخلص منها، ونشير هنا إلى إحراق مكتبة بغداد سنة 1258م على يد المغول، حيث ضاعت الكثير من الكتب التي لا تُقدّر بثمن. ثم إن كثيرا من المؤلفات، كانت تُفنّد مزاعم ونظريات شائعة وخاطئة، وبالتالي تثير حفيظة الاصدقاء والاعداء والأقارب.
- اسباب استعمارية: وقد تمثلت في طمس الهوية الثقافية للشعوب المستعمَرة، وكمثال على ذاك إحراق المستعمر الإسباني للكتب والوثائق الخاصة بحضارة الأزتك والمايا في أمريكا اللاتينية، وإحراقَ الأسكندر المقدوني (ت323ق.م) كتب المجوسية، لمّا تملكَ مملكة(دارا) وعمدَ إلى كتب النجوم والطب والفلسفة فنقلها الى اللسان اليوناني...
2- الآثار الفكرية والثقافية لاحراق الكتب على الفكر الانساني
تاريخيا ظلت ظاهرة إحراق الكتب و المكتبات من الطقوس اللصيقة بانتقال السلطة، أو التحولات الايديولوجية أو مقارعة الأفكار الفلسفية، وهي في جميع حالاتها ظاهرة غير صحية مجتمعيا وإنسانيا، ويمكن اعتبارها جريمة أخلاقية تنبذها القيم الأخلاقي لما لها من تأثيرات سلبية، من قبيل:
- تغذية الايديولوجات المغلقة
- رمزية العنف ضد العقل إذ يعتبر فعل الاحراق فعلا عنيفا موجها ضد العقل الإنساني، ويعكس احتقارًا للمعرفة والعقل النقدي.
- نشر الخوف والرقابة الذاتية،
- قطع الصلة بالماضي
- ضرب حرية التعبير، وإخراس الأصوات المعارضة
- القضاء على التنوع الفكري والمعرفي
خاتمة:
الكتاب هو ثمرةفكر، ومنهج وطريقة، وخارطة نحو غد أفضل، وتصحيح لسالف لم يصلح اليوم، ورؤية متجددة ضد ركود وتخشب. لماذا نحفظ المقولات والأحاديث والآيات القرآنية، ولا نطبقها ألم نقرأ (قيّدوا العِلم) أي اكتبوه ووثقوه ليستفيد منه الناس. لكن النظام السياسي منذ نشوئه ظلّ مرعوبا من الكلمة، ومن كلمة علم، وولادة عالم .. فكانوا يتقفون أثر العلماء والأدباء بأن يضعونهم أمام أعينهم في مجالسهم وحاشيتهم لينتفعوا منهم ويبعدونهم عن العامة ، أو أن منْ خالفهم ولم يأتمر بأوامرهم يدبرون له مكيدة فيقتلونه.
إن الكتاب مقدس، وهو تجربة، الكتاب باب لحياة أخرى ستكون، الكتاب أمل لشمس تضيء بعد ليل حالك. لذلك تم تجويع وترهيب وسجن العلماء ، بل والتقليل من هيبتهم وكرامتهم، ليكونوا تحت خيمتهم وحكمهم.
وما تزال مسيرة الحرق مستمرة الى يومنا بذات التهم والتخطيط بل تطورت الأساليب وفق التقنيات الحديثة. غير ان الكتاب يظل شمساً للشعوب ومناراً وفناراً تهتدي بهالامم
خلاصة:
ظاهرة إحراق الكتب ليست مجرد عمل عنيف ضد الورق، بل هو هجوم على الذاكرة، والهوية، والحرية الفكرية. وغالبًا ما يعكس الحرق خوفًا من الكلمة، وتأثيرها على السلطة أو المجتمع.
جامعة المستقبل - الجامعة الاولى في العراق
حرق الكتب