انت الان في كلية القانون

كفيل في قفص الاتهام: بين الجهل بالواقع وخيانة المكفول تاريخ الخبر: 16/08/2025 | المشاهدات: 95

مشاركة الخبر :

مجتمعاتنا العربية، لا سيما في العراق، تتجسد الكفالة على أنها فعل وفاء ونخوة، يتقدم به شخص ليضمن آخر، بدافع من الثقة أو القربى أو حسن الظن. غير أن هذه النية الطيبة قد تنقلب وبالًا على صاحبها، حين يخذله من كفله، ويجعله عرضة للملاحقة القضائية، وربما التنفيذ الجبري على أمواله، دون أن يكون قد استفاد من التزام أو دخل في مشروع أو تقاضى دينًا.الكفيل هنا ليس طرفًا أصيلًا في الدين، لكنه يتحمل عبئه كاملًا، حتى وإن كان يجهل تفاصيله. فالقانون – وفقًا لما ورد في المادة (1008) من القانون المدني العراقي – يُلزم الكفيل بما التزم به، ويُجيز للدائن الرجوع عليه مباشرة، متى ما أخل المكفول بالتزامه، دون أن يكون للجهل أو حسن النية أثر قانوني في الإعفاء من المسؤولية. وهذا ما يجعل الكفالة، رغم طابعها الاجتماعي، أداة خطرة في حال غابت عنها الشفافية أو أُسيء استخدامها.اللافت أن كثيرًا من الكفلاء لا يُمنحون الفرصة لفهم حقيقة ما يوقعون عليه، سواء لثقتهم الزائدة بالمكفول، أو بسبب الضغوط الاجتماعية أو العائلية، أو حتى تحت تأثير ما يُعرف بـ "الكفالة المجاملة". وهنا يتحول الكفيل من داعم إلى ضحية، ومن ضامن إلى مَدين، وقد يجد نفسه في قفص الاتهام، يواجه القضاء، ويُلاحَق تنفيذًا، بينما يختفي المكفول أو ينكر مسؤوليته أو يتنصّل منها بوقاحة.فما ذنب من أحسن النية؟ ومن ينصف من وقع في فخ الخديعة؟
لا شك أن القانون لا يحمي المغفَّلين، لكنه أيضًا لا يجب أن يتواطأ مع الغادرين.وفي ضوء ذلك، فإن الحاجة تزداد اليوم إلى إعادة النظر في مفهوم الكفالة، ليس من حيث جوهرها القانوني فقط، بل من زاويتها الأخلاقي والاجتماعية. فالمجتمع الذي تُبنى علاقاته على الثقة لا يجوز أن يُعاقب من يثق، ولا أن يُكافئ من يخون. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى توعية مجتمعية قانونية تحذّر من التوقيع على أي التزام دون فهم دقيق، وتدعو لتوثيق كل تفاصيل الكفالة بشفافية، وبحضور قانوني أو استشارة حقوقية.
بل إن المرحلة تتطلب تدخلًا تشريعيًا يُفرّق بين الكفالة عن علم، والكفالة عن جهل أو تضليل، ويمنح للقاضي سلطة تقديرية في تقدير نية الكفيل وظروف توقيعه. إذ لا يُعقل أن يكون القانون أداة حادة تطبق دون رحمة، بل يفترض أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة لا مجرد نصوص جامدة.
فإذا كان الكفيل قد وقّع من غير دراية، أو بسبب الثقة التي استُغلت، فإن مقتضيات العدالة تفرض أن يُنظر في حاله بعينٍ رحيمة، لا أن يُرمى به في قفص الاتهام وكأنّه المتهم الأول، لا الشريك المغدور.
إن الكفالة اليوم لم تعد مجرّد التزام قانوني، بل صارت اختبارًا لقيم المجتمع، ومرآة تعكس مدى احترام الناس للثقة والصدق. وإذا استمر هذا العبث بثقافة الكفالة، فإن الثقة المجتمعية ستتآكل، وسينشأ جيل لا يعرف إلا الحذر والشك، وهو ما يشكّل خطرًا على بنية التعايش ذاته.
وختامًا، ليس من العدل أن يبقى الكفيل وحيدًا في قاعة المحكمة، يُحاسب على ذنب لم يقترفه، فيما يتنصل المكفول من أي مسؤولية. فالقانون العادل هو الذي يُنصف النية، ويقرأ ما وراء التوقيع، ويمنح القاضي مساحة لتقدير الحقيقة، لا أن يسلّمه سيف التنفيذ دون شفقة.

الدكتور عباس شاتول حمود الشمري
جامعة المستقبل – كلية القانون

جامعة المستقبل الاولى على الجامعات الحكومية والاهلية في العراق

خبر موصى به ( إضغط هنا )