انت الان في كلية الصيدلة

مقاله عن الدور الخفي لعملية مراجعة الأقران في تحسين جودة البحث الأكاديمي: قصة نجاح من دراسات الصيدلة بقلم د. الدكتور حيدر رضا سلمان الجبوري في كلية الصيدلة جامعة المستقبل تاريخ الخبر: 19/07/2025 | المشاهدات: 118

مشاركة الخبر :

في قلب البحث الأكاديمي، توجد منظومة تعمل بصمت لكنها تؤثر بعمق في جودة المعرفة المنتجة: إنها عملية مراجعة الأقران. غالبًا ما تكون هذه العملية غير معروفة خارج الأوساط الأكاديمية، لكنها تطورت لتصبح واحدة من أكثر الآليات موثوقية في ضمان النزاهة العلمية.
عندما نتحدث عن جودة البحث العلمي في مجال الصيدلة، تتجلى أهمية هذه العملية بشكل بالغ ومميز، لدرجة أنها أصبحت عاملًا أساسيًا في تطور البحوث الصيدلانية، وتقدّمها، واعتماد نتائجها في السياسات العلاجية.
في دراسات الصيدلة، لا يقتصر البحث على التجارب المخبرية أو الصيغ الكيميائية، بل يتعداها إلى محاور متداخلة تشمل فعالية الدواء، سلامته، تفاعلاته، التوافر الحيوي، تصميم الأدوية، واختبارات السُميّة، بالإضافة إلى الدراسات السريرية الهادفة إلى تطبيق نتائج المختبر على المرضى. هذا التعقيد يتطلب مراجعة دقيقة لا تكتفي بتصحيح الأسلوب أو اللغة، بل تذهب إلى تحليل المنهج العلمي، ومراجعة النتائج، والتدقيق في التحليل الإحصائي، وفهم السياق الصيدلاني والسريري الذي أُجري فيه البحث.
أحد أبرز الجوانب التي تميّز مراجعة الأقران في الصيدلة هو طبيعة المراجعين أنفسهم. فغالبًا ما يكون المراجعون من ذوي التخصصات الدقيقة، مثل علم الأدوية السريرية، الكيمياء الصيدلانية، علم السموم، التكنولوجيا الصيدلية، أو الصيدلة الإكلينيكية. هؤلاء لا ينظرون إلى البحث نظرة عامة، بل يُخضعونه لتحليل دقيق، يركز على تفاصيل قد لا ينتبه إليها حتى المؤلفون أنفسهم. على سبيل المثال، قد يُشير المراجع إلى عدم توافق النتائج مع الجرعة المستخدمة في التجارب السريرية، أو يطلب استخدام نماذج خلوية أو حيوانية أكثر تمثيلًا للحالة المرضية المدروسة. وفي حالات أخرى، قد يوصي بتعديل تصميم التجربة بأكمله ليواكب المعايير العالمية.
تجربة المراجعة نفسها قد تكون متطلبة ومليئة بالتحديات، لكنها تُمثّل مرحلة نضج لكل باحث في الصيدلة. كثير من الباحثين، خاصة في بداية مسيرتهم الأكاديمية، يتعلّمون عبر هذه العملية أكثر مما يتعلمون في المحاضرات الجامعية. فمن خلال النقد البنّاء، يبدأ الباحث بفهم نقاط الضعف في تجربته، ويتعلم كيف يُحسن صياغة الفرضيات، ويكتشف أهمية الدقة في التحليل والتفسير. وعلى مرّ الزمن، يتحول هذا التفاعل إلى علاقة تربوية ضمنية، تصنع أجيالًا من الباحثين القادرين على التفكير النقدي والعلمي الرصين.
والأهم من ذلك أن نتائج الأبحاث الصيدلانية لا تبقى حبيسة المجلات، بل تنتقل إلى الواقع؛ فهي تؤثر على كيفية وصف الأدوية، وتحديد جرعاتها، ومراقبة آثارها الجانبية، وتطوير بدائل أكثر أمانًا وفعالية. ولهذا السبب، فإن الدور الذي تقوم به مراجعة الأقران هنا لا يقتصر على تحسين جودة الورقة العلمية، بل يمتد ليشمل جودة الرعاية الصحية نفسها.
تجارب كثيرة في تاريخ الصيدلة برهنت على أن مراجعة الأقران كانت السبب في إنقاذ المجتمع من نتائج مضلّلة. دراسات أولية أظهرت فعالية زائفة لبعض المركبات، لكن المراجعين أوقفوا النشر لحين إجراء دراسات أكثر انضباطًا، ما أدى إلى كشف محدودية فعالية تلك المركبات أو سُميّتها الخفية. في المقابل، هناك أبحاث كانت مهملة أو ضعيفة الصياغة، لكنها بعد سلسلة من المراجعات تحوّلت إلى مراجع علمية معتمدة ساهمت في تطوير خطوط علاجية جديدة.
إن ما يجعل مراجعة الأقران في الصيدلة "خفيّة" ليس غيابها، بل غياب التقدير الكافي لأهميتها. لا يراها القارئ العادي، ولا يتحدث عنها الإعلام، لكنها موجودة في كل سطر من ورقة بحثية محكمة، وفي كل رقم تم التحقق من صحته، وفي كل استنتاج لم يُسمح بنشره إلا بعد تمحيص علمي دقيق.
في نهاية المطاف، تُظهر قصة نجاح مراجعة الأقران في دراسات الصيدلة أن هذه العملية ليست مجرّد إجراء، بل هي ثقافة علمية قائمة على الشفافية، والتحسين المستمر، والحوار بين العقول المتخصصة. وبفضلها، تبقى البحوث الصيدلانية مصدرًا موثوقًا للمعرفة، وأداة آمنة للتطوير العلاجي، وجسرًا متينًا بين المختبر وسرير المريض.


جامعة المستقبل الجامعة الأولى في العراق
كلية الصيدلة الأولى على الكليات الأهلية