تُعد مهنة التمريض من أكثر المهن التي تتطلب مرونة نفسية وعاطفية عالية، حيث يتعرض الممرضون والممرضات بشكل يومي لمواقف تتسم بالتوتر، الضغط، وفي كثير من الأحيان، الغضب. سواء كان الغضب صادرًا عن المرضى، عائلاتهم، أو حتى الزملاء والإدارة، فإن القدرة على إدارة هذه المشاعر السوائل بفعالية ليست مجرد مهارة شخصية، بل هي ضرورة مهنية تؤثر بشكل مباشر على جودة الرعاية، سلامة المريض، وبيئة العمل ككل.
طبيعة الغضب في البيئة التمريضية
الغضب هو استجابة طبيعية للتهديد، الإحباط، أو الظلم المتصور. في البيئة الصحية، يمكن أن ينبع الغضب من عدة مصادر:
• من المرضى: بسبب الألم، الخوف، القلق بشأن التشخيص، فقدان السيطرة، طول فترة الانتظار، أو الإحباط من العملية العلاجية.
• من عائلات المرضى: غالبًا ما يكونون تحت ضغط عاطفي كبير، قلقين على أحبائهم، وقد يشعرون بالعجز أو عدم الفهم.
• من الممرضين أنفسهم: يمكن أن ينشأ الغضب لدى الممرضين بسبب الإرهاق، ضغط العمل، نقص الموارد، قلة الدعم، أو الشعور بعدم التقدير، مما يؤثر على صبرهم وقدرتهم على التعامل مع المواقف الصعبة.
• من الزملاء أو الإدارة: نتيجة لسوء الفهم، الخلافات المهنية، أو قضايا تنظيمية.
إن التعامل غير الفعال مع الغضب يمكن أن يؤدي إلى تصعيد المواقف، الإضرار بالعلاقة بين الممرض والمريض، وحتى التسبب في حوادث عنف جسدي أو لفظي، مما يعرض سلامة الجميع للخطر.
استراتيجيات حديثة لإدارة الغضب بفعالية
لضمان بيئة رعاية آمنة وفعالة، يجب على الممرضين والمؤسسات الصحية تبني استراتيجيات شاملة لإدارة الغضب:
1. الاستجابة المبكرة والتهدئة (De-escalation):
1- التعرف على العلامات المبكرة: الانتباه لتغيرات في لغة الجسد، نبرة الصوت، أو علامات التوتر المتزايدة لدى المريض أو الزائر.
2- الاقتراب الهادئ والمهدئ: استخدام نبرة صوت منخفضة وهادئة، والحفاظ على مسافة آمنة ومحترمة، وتجنب لغة الجسد العدائية (مثل وضع اليدين على الوركين).
3- الاستماع الفعال: إظهار التعاطف والفهم من خلال الاستماع باهتمام لمخاوف الشخص، السماح له بالتعبير عن مشاعره دون مقاطعة. كلمات مثل "أنا أسمعك"، "أفهم أن هذا محبط"، يمكن أن تكون فعالة جدًا.
4- التحقق من المشاعر: التأكيد على أن مشاعرهم مفهومة وطبيعية في هذا الموقف ("من الطبيعي أن تشعر بالغضب عندما تمر بهذا").
5- تقديم الحلول الواقعية: بعد الاستماع، تقديم خيارات أو حلول ممكنة وواقعية للمشكلة، حتى لو كانت جزئية.
2. التواصل الفعال والتأكيد (Assertiveness):
1- التعبير عن الحدود بوضوح وهدوء: إذا بدأ الغضب في التحول إلى سلوك غير مقبول (إهانة، تهديد)، يجب على الممرض أن يعبر عن الحدود بوضوح وثقة، مثلاً: "أنا هنا لمساعدتك، لكن لا يمكنني أن أستمر في هذه المحادثة إذا استمر الصراخ."
2- التركيز على السلوك، لا الشخص: تجنب الحكم أو اتهام الشخص، بل ركز على السلوك غير المقبول.
3- طلب المساعدة: في حال تصاعد الموقف أو الشعور بعدم الأمان، يجب على الممرض طلب المساعدة من الزملاء أو فريق الأمن فورًا.
3. التدريب والتعليم المستمر:
1- برامج تدريبية متخصصة: يجب على المستشفيات والمؤسسات الصحية توفير برامج تدريب منتظمة للممرضين حول إدارة الغضب، حل النزاعات، تقنيات التهدئة، وكيفية التعامل مع المرضى الصعبين.
2- تدريبات المحاكاة: استخدام سيناريوهات محاكاة لتدريب الممرضين على الاستجابة للمواقف المتوترة في بيئة آمنة.
3- التوعية بالصحة النفسية: فهم أن الغضب قد يكون أحيانًا مؤشرًا على حالات نفسية أو اضطرابات سلوكية، مما يتطلب نهجًا خاصًا.
4. دعم الممرضين والرعاية الذاتية:
1- برامج دعم الموظفين: توفير الدعم النفسي للممرضين الذين يتعرضون بشكل متكرر للغضب أو العنف في مكان العمل، من خلال الاستشارة أو مجموعات الدعم.
2- إدارة الإجهاد والوقاية من الاحتراق الوظيفي: تشجيع الممرضين على تبني استراتيجيات الرعاية الذاتية مثل ممارسة الرياضة، التأمل، الحصول على قسط كافٍ من النوم، وأخذ فترات راحة منتظمة. الممرض الذي يدير إجهاده بفعالية يكون أكثر قدرة على التعامل مع غضب الآخرين.
3- ثقافة مؤسسية داعمة: يجب أن تسعى المؤسسات لخلق ثقافة عمل تدعم الممرضين، وتقدّر مساهماتهم، وتوفر بيئة يشعرون فيها بالأمان والاحترام.
5. الاستخدام الفعال للتكنولوجيا والسياسات:
1- أنظمة الإبلاغ عن الحوادث: تشجيع الإبلاغ عن حوادث الغضب والعنف اللفظي أو الجسدي لتوثيقها وتحليلها وتطوير استراتيجيات وقائية.
2- سياسات واضحة للتعامل مع السلوك العدواني: وضع وتنفيذ سياسات واضحة حول كيفية التعامل مع السلوك العدواني للمرضى أو الزوار، وتحديد الإجراءات التي يجب اتخاذها لحماية الطاقم.
الخلاصة
إدارة الغضب في تقديم الرعاية التمريضية ليست مجرد تحدٍ فردي، بل هي مسؤولية مشتركة تتطلب جهدًا من الممرضين أنفسهم، المؤسسات الصحية، وأنظمة الدعم. من خلال تبني استراتيجيات استباقية وفعالة، وتوفير التدريب والدعم اللازمين، يمكن للمؤسسات الصحية أن تخلق بيئة عمل أكثر أمانًا، مما يعود بالنفع على الممرضين، المرضى، وعلى جودة الرعاية الصحية المقدمة ككل. في نهاية المطاف، تعزز هذه القدرة على إدارة الغضب ثقافة الاحترام والتعاطف، وهي جوهر مهنة التمريض.
م. د. مهدي حمزة منذور / كلية التمريض جامعة المستقبل
جامعة المستقبل الجامعة الاولى في العراق
الهدف الثالث من اهداف التنمية المستدامة الصحة الجيدة والرفاه