م.م. أحمد محمد جواد
جامعة المستقبل- كلية العلوم الإدارية
مقدمة:
يمر العالم الإسلامي بتحديات اقتصادية متزايدة، أبرزها البطالة، ارتفاع الأسعار، الفقر، وغياب العدالة الاجتماعية. وفي ظل هذه الأوضاع، يتجه الناس نحو الخطاب الديني بحثًا عن تفسير وطمأنينة، مما يفرض على هذا الخطاب مسؤولية مزدوجة: أن يقدّم الإيمان كقوة دفع لا استسلام، وأن لا يُستخدم لتبرير الظلم الاجتماعي.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تحليل البنية الدلالية لهذا الخطاب: كيف تُبنى مفاهيم الصبر؟ وهل يتم تقديمها بوصفها وسيلة لتحمّل الابتلاء، أم كبديل عن المطالبة بالإصلاح؟ وهل يتضمن الخطاب إشارات نحو التغيير والنهوض؟
أولًا: الصبر كقيمة مركزية في الخطاب الديني:
يشكّل الصبر أحد المحاور الأساسية في الخطاب الديني، لا سيما في الأزمات، ويُستشهد عادةً بآيات نحو: }وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{، و }إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{، ويُقدَّم الصبر بوصفه طاعة، ومقامًا رفيعًا، وابتلاءً يُكفّر الذنوب ويرفع الدرجات.
دلالة هذا الخطاب:
يدل هذا الخطاب الموجه إلى عامة الناس على بناء معنى الطمأنينة رغم الشدة، وإسناد الأزمة إلى القدر أو إنه (ابتلاء إلهي)، كما يدعو الفرد إلى التحمل الشخصي، دون الإشارة إلى المسؤوليات المؤسسية أو السياسية.
ثانيًا: السعي والتغيير في النصوص الدينية:
إلى جانب خطاب الصبر، تحتوي النصوص الدينية على حثٍّ واضح على العمل والسعي والتغيير، نحو قوله تعالى: }إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{، وكذلك قوله تعالى: }وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون{، وتستحضر بعض الخطب هذا البُعد، داعيةً إلى العمل والإنتاج، أو طلب الحقوق وعدم الرضا بالذل، وإصلاح الأنظمة الاقتصادية الفاسدة.
دلالة هذا الخطاب:
غالبًا ما يدل هذا الخطاب على بناء معنى المسؤولية المجتمعية، وربط الدين بقيم العدالة والكرامة والوعي، وإدخال مفاهيم مثل العدالة الضريبية، و(الأمان الاقتصادي)، و(محاربة الاحتكار)، مما يجعل الدين حليفًا للتغيير لا التبرير.
ثالثًا: التوتر بين الصبر والتغيير في الخطاب الواقعي:
عند تحليل خطب دينية واقعية في دول تمر بأزمات اقتصادية، نلاحظ ميل بعض الخطباء إلى التهوين من الأزمة وربطها بـ (الذنوب والمعاصي)، مقابل غياب مفاهيم المحاسبة والعدالة الاجتماعية، وكذلك استخدام الصبر أداةً للتهدئة، دون الإشارة إلى حلول أو انتقاد للفساد.
في المقابل، يظهر تيار آخر يربط بين الدين وحقوق الناس في العيش الكريم، ويشير إلى ضرورة إصلاح النظام المالي بما يحقق مقاصد الشريعة في حفظ المال والكرامة.
رابعًا: أدوات الخطاب الدلالية:
1. الاقتباس النصي:
توظيف الآيات والأحاديث بطريقة انتقائية، فمثلًا تقديم (الصبر عند المصيبة) دون ذكر (من غشنا فليس منا).
2. اللغة الشعورية:
استخدام لغة عاطفية تؤثر في الجمهور، مثلًا (الدعاء، البكاء، صوت منخفض أو مرتفع...)، وتكرار معاني (الفتنة) و(الابتلاء) أكثر من (الإصلاح) و(المسؤولية).
3. المجازات والاستعارات:
تصوير الفقير بأنه (مرفوع الدرجة)، وقد تُستخدم هذه الصورة لتغيب الدعوة إلى العدالة.
خامسًا: الفصل الميداني: (تحليل دلالي لخطبة دينية في سياق أزمة اقتصادية):
أ: بيانات الخطبة:
المكان: أحد مساجد العاصمة بغداد
التاريخ: الجمعة، 17 شوال 1446 هـ الموافق 23 أيار 2025
الموضوع: (الصبر في زمن الضيق والغلاء).
ب: هيكل الخطبة ومضامينها:
1. الافتتاحية:
بدأ الخطيب الخطبة بالآية الكريمة: }يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين{، وكرر أكثر من مرة عبارة: (إن ما نعيشه اليوم من ضيق هو امتحان من الله، فعلينا الصبر والثبات).
2. المتن:
أشار الخطيب إلى ارتفاع الأسعار، قلة فرص العمل، وتراجع الدخل، واعتبر أن هذه الأوضاع هي بلاء من الله لتكفير الذنوب.
ثم قدّم الخطيب نماذج من صبر الأنبياء (أيوب، يوسف، محمد ﷺ)، ودعا المصلين إلى الرضا بقضاء الله، وعدم التذمر.
3. الخاتمة:
لم يُشر الخطيب إلى أية مسؤولية اجتماعية أو حكومية، في حين دعا إلى الدعاء للولاة بالصلاح دون الإشارة إلى محاسبة أو إصلاح.
ج: التحليل الدلالي:
1- حملت الخطبة في طياتها رسائل ضمنية، تمثلت في تقديم الفقر بوصفه مقدّرًا لا مفر منه، وتصوير الأزمة كعقوبة جماعية على الذنوب، لا كنتيجة لقرارات بشرية.
2- البنية الدلالية العامة للخطبة تمثلت في سيطرة خطاب التهدئة والإخضاع لا التحفيز والإصلاح، وغياب المعاني التحريضية على التغيير البنّاء أو محاسبة الفاسدين.
3- اللغة المستخدمة، تكرار ألفاظ مثل: (الابتلاء، الرضا، الثبات، الجنة، الدرجات)، مقابل غياب مفاهيم أخرى مثل: (العدالة، الحقوق، الإنصاف، الإصلاح).
4- تأثير الخطاب في الجمهور: لاحظ الباحث أن بعض الحاضرين تفاعلوا بالبكاء والتأمين على الأدعية، لكن آخرين أبدوا امتعاضًا عند الخروج من المسجد، مع تعليقات
د: الاستنتاج:
تشير هذه الخطبة إلى نموذج شائع في بعض السياقات، حيث يُستخدم الخطاب الديني كأداة تسكين، يتغلب فيه الصبر القدَري على الوعي الحقوقي، ويغيب فيه التحليل العقلاني لواقع الأزمة.
إن البنية الدلالية لهذا الخطاب تعكس أحيانًا تصورات تقليدية للدين، ترى في المعاناة وسيلة للثواب، دون مساءلة الأسباب أو السعي لتغيير الواقع بما يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها في رفع الضرر وتحقيق الكرامة الإنسانية.
الخاتمة:
يتضح من خلال التحليل أن الخطاب الديني في زمن الأزمات الاقتصادية يسير في اتجاهين متوازيين: أحدهما يُغَلِّب الصبر والرضا كقيمة روحية، لكنه قد يتحول أحيانًا إلى أداة إسكات، والآخر يدعو إلى التغيير والإصلاح، مستندًا إلى النصوص نفسها، لكن بمنظور وظيفي اجتماعي.
في حين نرى اليوم حاجة المجتمعات إلى خطاب ديني متوازن، يُربّي على الصبر، لكنه لا يغفل عن محاربة الظلم، ويواكب الواقع من خلال استحضار مقاصد الشريعة في حفظ النفس والمال والكرامة.
جامعة المستقبل الأولى على الجامعات الأهلية.