في السنوات الأخيرة، شهد مجال التصوير الطبي قفزات هائلة بفضل تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد (3D) التي باتت تستخدم لرؤية الأعضاء الداخلية في جسم الإنسان بدقة غير مسبوقة. ومع هذا التطور، برز تحدٍّ كبير أمام الأطباء والباحثين وهو كيفية معالجة هذا الكمّ الهائل والمعقد من البيانات الصورية ثلاثية الأبعاد بسرعة وكفاءة. وهنا يأتي دور هندسة الحاسوب كعنصر حاسم في تسريع وإنجاح عمليات المعالجة والتحليل.
تبدأ القصة من جهاز التصوير نفسه، مثل جهاز الأشعة المقطعية (CT) أو الرنين المغناطيسي (MRI)، حيث يتم إنتاج مجموعة ضخمة من الشرائح الصورية (Slices) التي تمثّل أجزاء دقيقة من العضو الداخلي. هذه الشرائح تُجمع لاحقًا لتكوين مجسم ثلاثي الأبعاد يحاكي العضو الحقيقي. إلا أن تحويل هذه البيانات من مجرد شرائح إلى نموذج ثلاثي الأبعاد مفهوم وواضح يتطلب عمليات حسابية معقدة جداً، تبدأ من إعادة البناء، مروراً بالتنعيم وإزالة الضوضاء، وصولاً إلى تحليل الشكل والخصائص الفيزيولوجية.
هذا النوع من المعالجة لا يمكن أن يتم بكفاءة باستخدام معالجات تقليدية فقط (CPU)، وخصوصًا عندما يكون الوقت عنصرًا حاسمًا، مثل في حالات الجراحة الفورية أو تشخيص الأورام. لذلك، برزت هندسة الحاسوب كحقل تقني أساسي يوفر الأدوات والأنظمة التي تتيح تسريع هذه العمليات.
واحدة من أهم المساهمات التي قدّمتها هندسة الحاسوب في هذا المجال هي استخدام معالجات الرسوميات (GPU) في تسريع عملية إعادة بناء المجسمات ثلاثية الأبعاد. بينما تقوم وحدة المعالجة المركزية (CPU) بتنفيذ الأوامر بشكل متسلسل أو بعدد محدود من الخيوط، تمتلك الـ GPU القدرة على تنفيذ آلاف الخيوط المتوازية، ما يجعلها مثالية لمعالجة الصور ثلاثية الأبعاد في الزمن الحقيقي أو شبه الحقيقي.
لكن الحكاية لا تقف عند مستوى العتاد (Hardware)، بل تمتد إلى مستوى البرمجيات أيضاً. فمهندسو الحاسوب عملوا على تطوير خوارزميات ذكية مخصصة لهذا النوع من البيانات، مثل خوارزميات التقسيم ثلاثي الأبعاد (3D Segmentation) التي تُستخدم لفصل العضو المصاب عن الأنسجة المحيطة به، أو خوارزميات النمذجة (Modeling) التي تسمح بإنشاء نماذج تفاعلية يمكن للطبيب تدويرها وتحليلها من جميع الزوايا.
وإلى جانب ذلك، ساهمت بيئات البرمجة المتقدمة مثل CUDA من شركة NVIDIA، أو OpenCL، في تسهيل تنفيذ الخوارزميات المعقدة مباشرة على معالجات GPU، مما أدى إلى تقليص وقت المعالجة من ساعات إلى دقائق أو حتى ثوانٍ.
والأهم من كل هذا، هو كيف ساعدت هندسة الحاسوب في دمج هذه الأنظمة في بيئة العمل الطبي نفسها، سواء في غرف الطوارئ أو مراكز التشخيص أو حتى في التطبيقات السحابية. فاليوم، يستطيع طبيب في مستشفى ريفي أن يحمّل صورًا من جهاز التصوير إلى منصة سحابية تقوم بتحليلها وإعادة بنائها خلال دقائق، بفضل تقنيات الحوسبة السحابية المدعومة بخوارزميات المعالجة المتوازية.
ورغم هذه النجاحات الكبيرة، لا يزال الطريق طويلاً. هناك تحديات مستمرة تتعلّق بخصوصية البيانات، وتباين جودة الصور بين الأجهزة، وتعقيد بعض الحالات السريرية التي تتطلب تحليلًا بشريًا دقيقًا. لكن المؤكد أن هندسة الحاسوب ستبقى المحرك التقني الأساسي خلف كل تقدم في هذا المجال، لأنها تمثل الجسر بين الكم الهائل من البيانات الصورية وبين القرارات الطبية الدقيقة.
في النهاية، لم تعد الصورة ثلاثية الأبعاد مجرد رفاهية طبية أو أداة للمختبرات، بل أصبحت ضرورة يومية في التشخيص والعلاج والتخطيط الجراحي، وهندسة الحاسوب كانت – ولا تزال – الركيزة التي تجعل كل هذا ممكنًا، بسرعة ودقة وثقة
جامعة المستقبل الجامعه الاولى في العراق .
موقع جامعة المستقبل