في ظل التطور المتسارع في تقنيات التصوير الطبي، أصبحت المؤسسات الصحية اليوم تتعامل مع كميات ضخمة من البيانات الصورية الناتجة عن أجهزة مثل الرنين المغناطيسي (MRI) والأشعة المقطعية (CT) والموجات فوق الصوتية (Ultrasound). هذه الصور، التي غالبًا ما تكون ثلاثية الأبعاد أو متتابعة زمنيًا، لا تقتصر أهميتها على مجرد العرض، بل تحتاج إلى تحليل دقيق وسريع لاستخلاص معلومات تشخيصية حاسمة.
ومع هذا التزايد الهائل في كمية ودقة البيانات، بات من الواضح أن المعالجات التقليدية (CPU) لم تعد كافية لمعالجة هذه الصور بالكفاءة المطلوبة. وهنا ظهر الدور الثوري لما يُعرف بـ الحوسبة المتوازية باستخدام معالجات الرسوميات (GPU)، كحل فعّال لتسريع وتحسين أداء نظم المعالجة الصورية الطبية.
معالجات الرسوميات لم تكن مصممة في الأصل لهذا الغرض، بل خُلقت من أجل معالجة الرسومات والألعاب. لكنها بُنيت بطريقة تسمح بتنفيذ آلاف العمليات الحسابية في وقت واحد، وهو ما يجعلها مثالية للتعامل مع الصور الكبيرة والمعقدة. فبينما يقوم المعالج المركزي بتنفيذ التعليمات بشكل متسلسل غالبًا، تستطيع وحدات GPU أن تعمل بالتوازي على عدة وحدات بيانات. وهذا هو جوهر الحوسبة المتوازية.
دعينا نتصور أحد التطبيقات الشائعة: طبيب يريد تحليل صورة رنين مغناطيسي للدماغ مكوّنة من 512 × 512 × 200 فوكسل، كل فوكسل يحتوي على قيمة طبية معينة. هذه الصورة تمثل أكثر من 50 مليون نقطة بيانات. تخيلي لو أراد الطبيب تشغيل خوارزمية تقسيم (Segmentation) لفصل الورم عن النسيج السليم — العملية قد تستغرق عدة دقائق أو حتى ساعات على معالج CPU، وهو وقت لا يُحتمل في حالة مريض بحاجة إلى قرار فوري. لكن عند نقل هذه الخوارزمية إلى معالج GPU باستخدام أدوات مثل CUDA أو OpenCL، يمكن تنفيذها خلال ثوانٍ معدودة.
هذا التحول الجذري لم يكن ليحدث لولا جهود مهندسي الحاسوب الذين لم يكتفوا فقط بتعديل الكودات القديمة، بل طوّروا مناهج جديدة كليًا في تصميم الخوارزميات لتناسب الطبيعة المتوازية للمعالجات الرسومية. فعلى سبيل المثال، تم تطوير خوارزميات فلترة الصور وتحديد الحواف واستخراج السمات بطريقة تُنفذ فيها كل عملية على بُكسل مختلف بالتوازي، مما يقلل الوقت بشكل درامي.
وبعيدًا عن الجانب الأكاديمي، أصبحت هذه التقنيات تُستخدم اليوم بشكل فعلي في المستشفيات الكبرى ومراكز الأبحاث. فهناك أنظمة متكاملة قادرة على تحليل صور الأشعة فورًا بمجرد التقاطها، وإعطاء تقييم أولي للحالة خلال ثوانٍ. بل إن بعض الشركات بدأت في تطوير تطبيقات تعتمد على السحابة، تُرسل إليها الصور وتُحلل باستخدام خوادم GPU، ثم يُعاد إرسال النتائج إلى الطبيب.
لكن الأمر لا يخلو من تحديات. فبناء بيئة برمجية تستفيد فعليًا من الـ GPU يتطلب خبرة متقدمة في البرمجة المتوازية، كما أن الأجهزة نفسها مكلفة، وقد لا تكون متاحة في كل بيئة طبية. بالإضافة إلى ذلك، قد تختلف دقة النتائج حسب نوع البيانات، وجودة الصور، وطريقة تدريب الخوارزميات.
رغم كل ذلك، يُعد هذا المجال من أكثر التخصصات الواعدة، حيث يتوقع الباحثون أن تصبح الحوسبة المتوازية معيارًا أساسيًا في نظم التشخيص الطبي خلال السنوات القليلة القادمة، خاصة مع انتشار الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، والتي تتطلب أيضًا قدرات معالجة هائلة لا يمكن تحقيقها دون الاستفادة القصوى من معالجات الرسوميات.
في النهاية، يُمكن القول إن الحوسبة المتوازية باستخدام GPU لم تُحدث فقط تسريعًا في معالجة الصور الطبية، بل غيّرت قواعد اللعبة بأكملها. لقد فتحت الباب أمام تطبيقات تشخيصية جديدة، وأعطت الأطباء أدوات أقوى لاتخاذ القرار بشكل أسرع وأدق. وبفضلها، لم تعد الصور الطبية مجرد لقطات ثابتة، بل أصبحت مدخلات حية يُمكن تحليلها وفهمها ومقارنتها في الزمن الحقيقي، وكل ذلك في سبيل خدمة الإنسان وصحته
جامعة المستقبل الجامعه الاولى في العراق .
موقع جامعة المستقبل