المهندس علي عدنان عبد الكاظم
الفكرة الأساسية بسيطة يمكن لأي طالب استيعابها: لدينا صورة طبّية (أشعّة مقطعية للرئة CT أو صورة لآفة جلدية)، ونريد خوارزمية “تنظر” إلى الصورة وتقرّر: هل يوجد ورم محتمل أم لا؟ قيمة هذا العمل كبيرة لأن عبء السرطان عالميًّا في ازدياد؛ تقدّر منظمة الصحة العالمية أنه في عام 2022 كان هناك نحو 20 مليون حالة جديدة و 9.7 ملايين وفاة، أي أن القدرة على اكتشاف المرض مبكرًا قد تُنقذ أرواحًا كثيرة وتقلّل التكلفة على النظام الصحي.
أقوى مثال سريري يبيّن فائدة الاكتشاف المبكّر هو فحص سرطان الرئة بالـCT منخفض الجرعة لدى ذوي الخطورة العالية, تجربة NLST المنشورة في NEJM أثبتت انخفاض وفيات سرطان الرئة بنحو 20% مقارنة بالتصوير الشعاعي التقليدي، وتلتها تجربة NELSON التي أكّدت فاعلية الفحص على نطاق أوروبي.
هذا يعني أن أدوات الرؤية الحاسوبية التي تساعد طبيب الأشعة على رصد العُقيدات بدقّة وبعدد أقل من “الإنذارات الكاذبة” ليست ترفًا أكاديميًا، بل امتداد طبيعي لبرامج الفرز المعتمدة سريريًا.
عمليًا، يبني الطالب نظامًا كاملاً عبر ثلاث خطوات مترابطة.
أولًا: الحصول على بيانات موثوقة. في الرئة، تُعد مجموعة LIDC-IDRI من أرشيف الصور السرطانية TCIA مرجعًا قياسيًا؛ فهي تتضمن فحوصات CT مع تعليم خبراء لأماكن العُقيدات، ما يتيح تدريبًا موضوعيًا وتقييمًا قابلًا للتكرار. أما في سرطان الجلد، فيوفّر أرشيف ISIC مجموعات ضخمة عالية الجودة (مثل ISIC 2020 التي تضم 33,126 صورة ديرموسكوبية مع تأكيدات نسيجية)، إضافة إلى تحديات سنوية تُعرّف معاييرً واضحةً للمقارنة.
هاتان المجموعتان مجانيتان للأغراض البحثية والتعليمية، وهو ما يجعل مشروعات التخرج والرسائل قابلة للتنفيذ على حواسيب الطلاب.
ثانيًا: بناء خطّ أنابيب (Pipeline) واعٍ بالطب.
في صور CT للرئة، يبدأ العمل عادةً بمرحلة “اقتراح مرشّحات” (candidates) لاستخراج بقع يُحتمل أن تكون عقدًا—وهي مرحلة هدفها الحساسية العالية حتى لو زادت الإيجابيات الكاذبة.
بعد ذلك تأتي مرحلة “التحقّق الدقيق” باستخدام شبكة ثلاثية الأبعاد (3D-CNN) أو نموذج تجزئة مثل U-Net لمراجعة كل مرشّح وخفض الإنذارات غير الصحيحة. في صور الجلد، يكفي غالبًا نموذج ثنائي الأبعاد—مثل ResNet أو Vision Transformer مُهيأ مسبقًا—يُضبط (Fine-Tuning) على صور ISIC، مع عناية خاصة بمشكلة عدم توازن الفئات (قلة الميلانوما نسبةً للحميد).
في الحالتين، ينبغي معايرة العتبة الاحتمالية بحثًا عن نقطة تشغيل تحقق حساسية عالية دون انفلات في معدل الإيجابيات الكاذبة، ويُعبَّر عن الأداء إجمالًا بمنحنى ROC ومساحة AUC اللذين ينتشران في الطب والذكاء الاصطناعي كمعيارين سهلين للمقارنة بين النماذج.
ثالثًا: التفسير وبناء الثقة.
من الطبيعي أن يسأل الطبيب: “على أي منطقةٍ في الصورة اعتمد النموذج ليصدر حكمه؟”. هنا تأتي أدوات مثل Grad-CAM التي تُسَلِّط “خريطة حرارة” على المناطق الأكثر إسهامًا في القرار، ما يكشف بسرعة إن كان النموذج ينظر إلى العُقيدة فعلًا أو ينخدع بعوامل خارجية كالحواف والضجيج. استخدام Grad-CAM في التقارير التعليمية والمناقشات السريرية يُعدّ ممارسة جيدة لرفع موثوقية النظام وتقصّي حالات الفشل.
من المفيد التذكير بأن الشبكات العصبية التفافية (CNNs) تتعلم تلقائيًا تمثيلات مراتب: في الصور الجلدية مثلًا، تتعلّم البنى البسيطة (حواف وقوام) في الطبقات الدنيا ثم تبني منها سمات مركّبة تُساعد في التفريق بين آفة حميدة وخبيثة. هذا بالضبط ما مكّن دراسة Nature 2017 بجامعة ستانفورد من تدريب نموذج وصل بأدائه إلى مستوى أطباء الجلدية في تصنيف صور الجلد من لقطات قريبة تشبه صور الهواتف، وهو إنجاز تاريخي فتح الباب لدفعات من مشاريع طلابية حول العالم. لكن تلك الدراسة نفسها أبرزت حدود التقنية—فحتى الخبراء والنموذج يلتبس عليهم التفريق بين فئات متجاورة سريريًا—ما يذكّر بأن النظام مساعد للطبيب وليس بديلًا عنه.
يبقى التحدي الأهم: تقليل الإيجابيات الكاذبة دون خسارة حالات حقيقية. طبيًّا، الخطأ من هذا النوع يُربك المريض والطبيب ويزيد الفحوص غير اللازمة. الحلول العملية التي أثبتت جدواها لدى فرق طلابية وبحثية تتضمن “تصميمًا ثنائي المراحل”: كاشف سريع عالي الحساسية يوسّع الشبك لالتقاط كل ما يُحتمل، ثم مصنف/مُجزِّئ أدقّ يُصفّي النتائج. كما أن دمج السياق السريري—مثل العمر، موقع الآفة، عوامل الخطر—يحسن القرار النهائي، وهو اتجاه واضح في تحديات ISIC الحديثة. وأخيرًا، المعايرة الإحصائية لاحتمالات النموذج (calibration) تساعد على اختيار عتبة عملية في العيادة تُحافظ على الحساسية المطلوبة مع الحد من الإنذارات—ويُقاس أثر ذلك مباشرة على منحنى ROC.
من زاوية المنهجية العلمية، لا يكفي الإبلاغ عن “الدقّة” فقط لأنها تتأثر بتوازن الفئات؛ بل يجب عرض الحساسية والنوعية وAUC مع تحليل للأخطاء الشائعة (لماذا يخطئ النموذج؟ هل يعتمد على خلفيات مضلِّلة؟). كما يجب اختبار النموذج على مجموعة خارجية مختلفة عن بيانات التدريب لضمان القابلية للتعميم، إذ إن تغيّر أجهزة CT أو اختلاف ظروف التصوير الجلدي قد يُضعف الأداء إذا لم يُراعَ في مرحلة الإعداد. هذه المبادئ ليست تفاصيل ثانوية بل شروطٌ لاعتبار النموذج صالحًا للتجربة السريرية.
ختامًا، أن الاكتشاف المبكّر للسرطان باستخدام الرؤية الحاسوبية مشروع متدرّج وواضح الخطوات: بيانات موثوقة (LIDC-IDRI للرئة، ISIC للجلد)، خط أنابيب ذكي يُوازن بين الحساسية وخفض الإيجابيات الكاذبة، تفسير بصري شفاف يبني الثقة، وتقييم إحصائي سريري الرؤية. الأثر الواقعي لهذا المسار مثبتٌ سريريًا في سرطان الرئة بفضل برامج الفحص بالـCT منخفض الجرعة، كما أن التحسن الكبير في تصنيف صور الجلد دفع المجتمع العلمي إلى التفكير في أدوات فرز مساعدة على أجهزة بسيطة. ومع أن الطريق إلى الاعتماد الواسع يمر عبر التحقق والحوكمة، فإن المهارات التي يكتسبها الطالب—من إعداد البيانات إلى معايرة النماذج وتفسيرها—هي حجر الأساس لتطبيقات طبية آمنة تُنقذ حياة الناس في السنوات القادمة.
جامعة المستقبل الجامعة الاولى بالعراق