أ.م.د-عباس فاضل رسن جامعة المستقبل/كلية العلوم الادارية
شهد العراق بعد عام 2003 تغيرات اقتصادية ومالية ونقدية ملحوظة القت بضلالها على الحياة المعيشية للشعب العراقي بشكل واضح من خلال خلق الاعتماد التام على الإيرادات النفطية فقط مع تغييب القطاعات الإنتاجية بشكل كامل ليكون العراق دولة ريعية يشكل شبه مطلق مع تعطيل للقطاعات الإنتاجية كافة وفي مقدمتها الصناعة والزراعة الذي انتج بدوره عدة ملايين من الموظفين العاملين في تلك القطاعات و الذين يستلمون رواتبهم بالاعتماد على إيرادات النفط بشكل مباشر دون مقابل انتاجي للتكاليف التشغيلية الممنوحة لهم مع تفكيك الشركات الصناعية المهمة وفقدان معداتها الإنتاجية الرأسمالية او بيعها بشكل عشوائي دون تحديث او تطوير لمعدات متقدمة تحل مكانها لتحقيق مستوى انتاج محلي معين .
كذلك شهد القطاع العام تضخما كبيرا لأعداد الموظفين ومنتسبي قوى الامن والجيش بشكل واضح مع وجود شريحة واسعة من المستفيدين من قرارات العدالة الانتقالية مما اسهم في رفع نسبة النفقات التشغيلية الى اكثر من 50% من الموازنة الكلية للدولة العراقي مع تضخم مضطرد في حجم النفقات الحكومية الاستهلاكية وانعدام النفقات الاستثمارية المولدة للدخل .
مع تراجع أسعار النفط بشكل حاد مطلع عام 2020 بسبب جائحة كورونا نتيجة الازمة الاقتصادية العالمية الناتجة عنه بسبب الاغلاق التام للقطاعات الإنتاجية في اغلب دول العالم تعرض العراق لازمة مالية حادة مع غياب النشاط الاقتصادي أصلا قبل هذا التاريخ اضف الى ذلك تراكم الديون الداخلية والخارجية التي ذهبت باتجاه النفقات الاستهلاكية متجاوزة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة اكثر من 150% للعام المذكور آنفا وهذا الامر أدى بدوره الى عجز الحكومة عن تسديد التزاماتها الدورية والتشغيلية وابرزها رواتب الموظفين مما جعلها تتجه للبحث عن حلول لهذه الازمة وكانت الخطوة الأولى التوجه نحو الاقتراض مرة أخرى بخطوة غير موفقة كونها اثقلت كاهل الدولة العراقية والاجيال اللاحقة بديون كبيرة وفوائد ديون مرتفعة من الناتج المحلي الإجمالي تجاوزت تقريبا 11 مليار دولار سنويا اضف الى ذلك التزامات الدولة اتجاه شركات النفط الأجنبية في ظل عقود التراخيص المشؤومة التي حملت الموازنة العراقية مبالغ طائلة بعشرات المليارات من الدولارات سنويا مما حرم العراق من إيرادات كبيرة تعادل ميزانيات دول مثل سوريا وايران وغيرها ، وكان اتفاق أوبك بلس القشة التي قصمت ظهر البعير بعد تنازل العراق عن 23% من حصته التصديرية من النفط ضمن منظمة أوبك اذ تم انجاز هذا الاتفاق بتوقيت حرج جدا بالنسب للوضع المالي في العراق لم يكن متخذ القرار العراقي فيه موفقا كونه أدى الى حرمان العراق من مورده المالي الوحيد بنسبة مرتفعة لا يمكن تعويضها ولا يمتلك العراق الوسائل اللازمة على المستوى الاقتصادي والمالي لمواجهة هذه المعضلة .
ان اصل المشكلة التي يواجهها العراق هي مشكلة اقتصادية مالية بحتة بسبب انخفاض ايراداته النفطية وعدم وجود مصادر ايرادية تعويضية داعمة لتقليص فجوة العجز المتحقق مع غياب كامل للانشطة الاقتصادية الإنتاجية التي تستطيع سد رواتب موظفيها على اقل تقدير .
هنا وفي ظل ازمة مالية اقتصادية مركبة بدأ البحث عن حلول لمواجهة تداعيات انهيار أسعار النفط وارتفاع نسبة العجز المالي ومع طرح رؤى وحلول عملية متعددة انصب الاهتمام باتجاه (السياسة النقدية ) باستخدام سعر الصرف وتخفيض قيمة العملة المحلية لتقليص الفارق بالدينار العراقي فقط ما بين الإيرادات والنفقات رغم بقائها بذات القيمة بالعملة الأجنبية المقومة بالدولار الأمريكي مع ارتفاع قيمة التكاليف التشغيلية المخصصة للسلع والمعدات المستوردة من الخارج وقد حذرنا مرارا من العواقب السلبية الحادة لهذه الخطوة للأسباب الاتية :-
1- ان اصل المشكلة يتمثل كما اسلفنا بالسياستين المالية والاقتصادية ولا علاقة للسياسة النقدية بالامر.
2- ان تغيير سعر الصرف وخفض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار يبقي المشكلة الأساسية قائمة المتمثلة بمحدودية الإيرادات الكلية المتحققة بالدولار ومصدرها الوحيد هو النفط .
3- أدت هذه الخطوة الى ارتفاع مستوى الأسعار في الأسواق كون اغلب السلع الموجودة مستوردة ولا يوجد لها بديل محلي متاح مما اثر على حياة الطبقات الفقيرة وعدم قدرتها على توفير احتياجاتها الأساسية من الغذاء والدواء .
4- أدت هذه الخطوة الى ارتفاع نسب الفقر المرتفعة أصلا في مناطق الوسط والجنوب تحديدا بشكل ملحوظ.
5- أن انخفض القوة الشرائية للمواطن بسبب انخفاض قيمة الرواتب والأجور بنسبة كبيرة تقدر بحوالي 20% من قيمتها الحقيقية أدى الى تراجع مستوى الطلب الكلي مما أدى الى خلق انكماش وركود اقتصادي واضح مع ارتفاع كبير في الأسعار وهو ما يطلق عليه (التضخم الركودي).
6- انتج الانكماش الاقتصادي وتراجع الطلب الكلي توقف العديد من المصانع والشركات الإنتاجية مما أدى الى ارتفاع نسب البطالة وتسريح اليد العاملة فيها بسبب توقفها نتيجة عدم قدرة السوق على تسويق منتجاتها بشكل واسع.
7- أدت هذه الخطوة أيضا الى رفع كلف الإنتاج كون اغلب المواد المصنعة محليا تعتمد على مواد أولية مستوردة من الخارج مما جعل المنتج المستورد اقل كلفة بالقياس بالمنتج المحلي .
في ضوء ما تقدم لم يكن قرار توظيف سعر الصرف كحل لمشكلة العجز المالي موفقا بل كانت نتائجه السلبية واسعة ولم يتح أي حلول منطقية اقتصادية او مالية للدولة سوى اقتطاع جزء من القوة الشرائية لفئة من المواطنين ومنحها لفئة أخرى دون إيجاد حلول اقتصادية ومالية جذرية تذكر لاصل المشكلة المتمثلة بمحدودية إيرادات الدولة وعدم تنويعها والاعتماد على اقتصاد ريعي احادي الجانب رغم ان الدستور العراقي حدد شكل النظام الاقتصادي للبلد باقتصاد السوق مع تغييب كامل لكل من القطاعين العام والخاص.