المقدمة
م.م كرار محمد سماوي
شهد العالم في السنوات الأخيرة تحولاً ملحوظاً في الفكر المالي والمصرفي نتيجةً للتحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة. فقد لم تعد المصارف تقتصر على دورها التقليدي المتمثل في تعبئة المدخرات ومنح القروض، بل أصبحت مطالبة بالالتزام بمبادئ الاستدامة التي تدمج بين الاعتبارات المالية والاقتصادية من جهة، والمسؤوليات الاجتماعية والبيئية من جهة أخرى. من هنا برز مفهوم التمويل المستدام باعتباره أداة استراتيجية تسعى من خلالها المؤسسات المالية إلى دعم مشروعات تحقق عوائد اقتصادية وفي الوقت نفسه تراعي حماية البيئة وتعزيز التنمية المجتمعية.
التمويل المستدام: المفهوم والأهمية
يقصد بالتمويل المستدام توجيه الموارد المالية نحو الأنشطة الاقتصادية التي تراعي الأبعاد البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG)، بما يسهم في خلق قيمة طويلة الأمد لجميع أصحاب المصلحة. وتشمل أنشطته تمويل مشروعات الطاقة المتجددة، الكفاءة في استخدام الموارد، البنية التحتية الخضراء، وتمويل الشركات التي تلتزم بالمسؤولية المجتمعية.
أهمية التمويل المستدام تتجلى في:
1.خفض المخاطر الائتمانية من خلال الاستثمار في مشروعات أقل عرضة للتقلبات البيئية والتنظيمية.
2.تحسين السمعة المؤسسية حيث يُنظر إلى المصرف كمؤسسة مسؤولة اجتماعياً.
3.جذب المستثمرين الذين يتبنون معايير الاستثمار الأخلاقي والمستدام.
محاسبة الاستدامة في المصارف التجارية
تُعرّف محاسبة الاستدامة بأنها عملية قياس وإعداد التقارير عن الأداء البيئي والاجتماعي والاقتصادي للمؤسسات، بما يتيح تقييم مدى مساهمتها في التنمية المستدامة. بالنسبة للمصارف التجارية، تشمل محاسبة الاستدامة:
•الإفصاح عن بصمتها الكربونية ومصادر الطاقة المستخدمة.
•بيان السياسات الائتمانية الخاصة بتمويل المشروعات ذات الطابع البيئي والاجتماعي.
•قياس أثر القروض والمنتجات المالية على المجتمع (مثل تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة أو المبادرات النسوية).
•الالتزام بإطار الإفصاح العالمي مثل معايير GRI أو توصيات TCFD.
العلاقة بين التمويل المستدام ومحاسبة الاستدامة
يمثل التمويل المستدام الجانب العملي والتطبيقي، بينما تمثل محاسبة الاستدامة الجانب المحاسبي والتقويمي. فالمصارف التي توجه قروضها واستثماراتها نحو مشاريع صديقة للبيئة تحتاج في الوقت نفسه إلى الإفصاح عن ذلك بشفافية عبر تقارير الاستدامة. هذه العلاقة التكاملية تؤدي إلى:
•تعزيز الشفافية والثقة بين المصرف والمستثمرين والعملاء.
•تحسين إدارة المخاطر من خلال دمج مؤشرات الاستدامة في قرارات الائتمان.
•تحقيق ميزة تنافسية في بيئة مالية تتجه أكثر فأكثر نحو التمويل الأخضر.
التحديات التي تواجه المصارف
رغم الأهمية الكبيرة، تواجه المصارف عدة تحديات في تطبيق التمويل المستدام ومحاسبة الاستدامة، منها:
•غياب معايير موحدة للإفصاح المالي غير التقليدي.
•ضعف الخبرات البشرية والتقنية في تقييم الجوانب البيئية والاجتماعية.
•مقاومة بعض العملاء والمستثمرين الذين يفضلون الربحية السريعة على الاستثمار طويل الأمد.
الخاتمة
يمكن القول إن التمويل المستدام يشكل ركيزة أساسية في إعادة تعريف الدور المجتمعي للمصارف التجارية، إذ لم يعد هدفها مقتصراً على تعظيم الربحية وإنما المساهمة الفعلية في التنمية المستدامة. أما محاسبة الاستدامة، فهي الأداة التي تضمن الشفافية وتقييم الأداء في هذا المجال. ومع تنامي الضغوط الدولية نحو الاقتصاد الأخضر، فإن المصارف التي تتبنى التمويل المستدام والإفصاح الشامل عن ممارساتها ستكون الأكثر قدرة على الصمود والتنافسية في المستقبل.