م. د أثير كريم الحسناوي ، تدريسي في قسم علوم القرآن والتربية الإسلامية في جامعة المستقبل: السبت:٢٦/٧/٢٠٢٥
قيم ، إقناع ، تأثير ، القرآن الكريم ، تربية ، مجردة ، محسوسة
المقدمة
القيم الإنسانية هي العمود الفقري لكل حضارة، وهي الأساس الذي يُبنى عليه الوعي الإنساني والتفاعل الاجتماعي والنهضة الأخلاقية. وما يميز هذه القيم هو طابعها الكوني، فهي لا تنتمي إلى ثقافة دون أخرى، ولا تُختزل في مذهب أو زمن، بل تُعبّر عن جوهر الإنسان ككائن عاقل وأخلاقي. ويمكن تصنيف هذه القيم إلى قيم مجردة تمثل المبادئ النظرية العليا، وقيم محسوسة تتجلى في السلوك والتطبيق العملي في الحياة اليومية ، والقيم عند بيرلمان (Chaïm Perelman) تُعدّ من المفاهيم المركزية في نظرية الحجاج الجديدة التي صاغها مع لوسي أولبريخت-تيتيكا، حيث ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الإقناع العقلي والأخلاقي. فبيرلمان لم ينظر إلى الحجاج كأداة لعرض البراهين فحسب، بل كعملية ذات بعد أخلاقي وفلسفي، تهدف إلى التأثير في "المتلقي العاقل" عبر استدعاء القيم المشتركة التي يتقبلها ، ويشكّل القرآن الكريم منظومة قيمية متكاملة، لا تُخاطب الفرد المؤمن وحده، بل تخاطب الإنسانية جمعاء، وتُقدّم نموذجًا كونيًّا للعدالة، والكرامة، والخير. وتتنوع القيم في القرآن بين قيم مجردة ترتبط بالمعاني العليا مثل الحق والعدل، وقيم محسوسة تتجلى في السلوكيات والمواقف العملية كالإحسان، والرحمة، والوفاء.
أولًا: القيم المجردة
القيم المجردة هي المفاهيم العليا التي تُعَدّ مرجعًا أخلاقيًا ومعنويًا لكل سلوك إنساني، وتتميز بطابعها العقلي والتأملي وتعمل كبوصلة داخلية للفرد والمجتمع وهي المبادئ العليا التي تشكّل الأساس الأخلاقي والروحي لكل الرسالات السماوية، ومن أبرزها:
1. العدالة أو العدل
هي ميزان القيم وضمانة الحقوق، وهي تعني إعطاء كل ذي حق حقه دون تحيّز. العدالة المجردة تسبق القوانين، وتُبنى عليها الأخلاق والمعاملات. ومنه قوله تعالى : "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" (النحل: 90)
العدل قيمة كونية، لا تتجزأ، وتشمل كافة المجالات: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
2. الحرية
الحرية في بعدها المجرد هي قدرة الإنسان على الاختيار والتفكير دون إكراه، وهي شرط أصيل لكرامة الإنسان ونموه العقلي ، ومنه قوله تعالى :" إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها " الحرية كقيمة لا تُذكر لفظًا صريحًا، لكنها حاضرة في مقاصد القرآن، كتحرير الإنسان من عبودية البشر والشهوات.
3. الكرامة الإنسانية
كرامة الإنسان تنبع من كونه إنسانًا، وهي لا تُكتسب من نسب أو دين أو جنس. تُعدّ هذه القيمة مرجعية كبرى في المواثيق الدولية والدينية ، ومنه قوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70)
كرامة الإنسان أصل وجوده، وهي غير مشروطة بدين أو عرق أو جنس.
4. الحق
يشمل الحق في الحياة، التعليم، التعبير، العمل، والمشاركة السياسية. وهو من المفاهيم المجردة التي تسند جميع القيم الحقوقية والاجتماعية، ومنه قوله تعالى: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ" (الإسراء: 81)
الحق قيمة مطلقة في القرآن، تقابلها الباطل لا باعتبار نسبي، بل باعتبار وجودي.
5. السلام
السلام لا يقتصر على غياب الحرب، بل يشمل السكينة الداخلية، والانسجام المجتمعي، والعدل الدولي ، ومنه قوله تعالى: " ولا تعتدوا إن شاء الله لا يحب المعتدين" ، المائدة: ٨٧
6. الحقيقة
طلب الحقيقة ومعرفتها واحترامها، سواء في الفكر أو الإعلام أو القضاء، هي قيمة مركزية لأي مشروع إنساني.
7. المحبة
تُعدّ المحبة شعورًا كونيًا يربط بين البشر، ويعبّر عن الانتماء والتعاطف، وتسبق في معناها العميق كل الأديان والنظم ، ومنه قوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" المائدة:٢
ثانيًا: القيم المحسوسة (السلوكية/العملية)
القيم المحسوسة هي التي تتجلى في الواقع العملي، في أفعال الناس وممارساتهم اليومية، وهي مرآة عاكسة للقيم المجردة ، و تتجسد في أفعال يومية وسلوك عملي يظهر في التعامل مع النفس والناس:
1. الصدق
يتجلى في القول والفعل، ويُعَدّ مظهرًا من مظاهر احترام الحقيقة، ومنه قوله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة: 119)
2. الأمانة
تمثل تجسيدًا عمليًا للعدل والاحترام، سواء في المال أو السر أو الوظيفة ، ومنه قوله تعالى:" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" النساء :٥٨
3. الإحسان
يُعبّر عن تجاوز الواجب الأخلاقي إلى الفعل الجميل، ويظهر في الرحمة والعطاء.، ومنه قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 195)
يشمل الإتقان في العمل، واللطف في المعاملة، والجمال في الأداء
4. التسامح
يتجلى في قبول الآخر رغم اختلافه، وهو مظهر من مظاهر الحرية والمحبة ، ومنه قوله تعالى: " وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أقرب للتقوى " البقرة : ٢٣٧
5. الوفاء بالعهد
يدل على الالتزام بالعهد والصدق في العلاقات، وهو شكل من أشكال الاستقامة، ومنه قوله تعالى: ""وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا" (الإسراء: 34)
6. الاحترام
يتجسد في احترام الذات والآخرين، كبارًا وصغارًا، وهو يعكس قيمة الكرامة.
7. التعاون
شكل محسوس لقيمة السلام والتكافل، ويُعدّ أساس البناء المجتمعي ، ومنه قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"
8. الزهد والتوازن
القرآن لا يدعو إلى الرهبانية، بل إلى الزهد المتوازن:
ومنه قوله تعالى : "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" (القصص: 77)
ثالثًا: العلاقة الجدلية بين القيم المجردة والمحسوسة
القيم المجردة تُوجّه الوعي، أما المحسوسة فتشكّل السلوك. ولكن لا قيمة للواحدة دون الأخرى؛ فالعقل الأخلاقي يُولَد من تفاعل العقل النظري مع التجربة اليومية. وعندما تنفصل القيم المجردة عن التطبيق، تتحول إلى شعارات جوفاء. كما أن الأفعال دون قيم مرجعية تصبح مجرد مصالح أو عادات.
رابعًا: القيم في السياق الكوني المعاصر
في ظل العولمة والتكنولوجيا، أصبحت القيم الكونية ضرورة ملحّة لا ترفًا ثقافيًا. إذ تواجه البشرية تحديات خطيرة مثل التغير المناخي، الفقر، العنصرية، الاستلاب الرقمي… وكلها تستدعي استدعاء هذه القيم من أجل إعادة تشكيل العالم على أساس إنساني جامع.
الخاتمة
إن القيم الكونية، بكل من مستوياتها المجردة والمحسوسة، هي الحبل الذي يشدّ الإنسان إلى إنسانيته. ولا يمكن لأي مجتمع أن يرتقي دون منظومة قيم راسخة تكون البوصلة التي تهديه في معاركه الفكرية والسياسية والاجتماعية. وبين التجريد والتجسد، تظل القيم هي اللغة الخالدة التي يفهمها كل البشر، مهما اختلفت لغاتهم وثقافاتهم ، وفي القرآن الكريم القيم الكونية فيه ، سواء أكانت مجردة أم محسوسة، ليست مقترحات أخلاقية، بل تشريعات توجيهية ومبادئ إنسانية جامعة. وهي تعكس طبيعة الدين الإسلامي بوصفه رسالة عالمية تتجاوز الزمان والمكان، وتدعو الإنسان إلى ترسيخ تلك القيم في الذات والمجتمع والعالم، لتشكيل حضارة قائمة على السلم والعدل والكرامة.
المراجع والمصادر:
القرآن الكريم.
أديب صعب: فلسفة القيم، دار المشرق. ط:1، بيروت -لبنان : 24
طه عبد الرحمن: سؤال الأخلاق: ٦٥
عبد الكريم بكار: قيمنا كيف نغرسها؟.: ٧٢
محمد عابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي:٤٢
شاييم بيرلمان : المصنف في الحجاج ، البلاغة الجديدة ، ترجمة : محمد الولي ، دار الكتاب الجديد ، بيروت ـلبنان : ١٣٩

جامعة المستقبل الأولى على الجامعات الأهلية