انت الان في قسم علوم القرآن والتربية الاسلامية

ثقافة الاتزان: نحو وعي سلوكي يواجه الانفعال والعشوائية في المجتمعات العربية تاريخ الخبر: 29/07/2025 | المشاهدات: 10

مشاركة الخبر :

م.د أثير كريم الحسناوي ، تدريسي في قسم علوم القرآن والتربية الإسلامية ، كلية التربية ، جامعة المستقبل ، 29/7/2025

الاتزان ، الانفعال ، الثقافة، القرآن الكريم ، السنة النبوية ، الوعي

تمهيد:
يُقاس نضج المجتمعات لا فقط بتقدمها الاقتصادي أو تقنياتها، بل بمدى سيطرتها على انفعالاتها وضبطها لسلوكها. في مجتمعاتنا العربية، يظهر غياب ثقافة الاتزان واضحًا في السلوك اليومي: في الاحتفال، في النقاش، في التعبير عن الرأي، في ممارسة الشعائر، وحتى في الحياة العاطفية والمهنية.
يُقابِل هذا الغياب حضورٌ طاغٍ للعشوائية، والانفعال، والهمجية في الموقف والتعبير، حتى صار الإنسان يُكافَأ أحيانًا على صراخه لا على منطقه، وعلى عنفه لا على حجته. من هنا تأتي هذه الورقة لتُسلّط الضوء على أهمية بناء ثقافة الاتزان كقيمة أخلاقية، وتربوية، ومجتمعية.
أولًا: مفهوم ثقافة الاتزان
ثقافة الاتزان هي السلوك الواعي الذي ينبع من:
ضبط النفس أمام الاستفزاز، والهدوء أمام النجاح أو الفشل، والتعقل أمام الحدث، والتوازن في الانفعال،
والتمييز بين ما يُقال وما لا يُقال، وما يُفعل وما يُترك.
هي ليست بلادة ولا ضعفًا، بل هي قمة القوة العقلية والنفسية.
ثانيًا: مظاهر غياب الاتزان في الواقع العربي:
1. الاحتفال الصاخب المبالغ فيه
– عند الظهور الإعلامي أو تسجيل هدف أو عقد زواج أو تخرج طالب.
2. الاعتراض العنيف على الحكّام أو السلطات أو الآراء.
– سواء في الملاعب أو في الحوار التلفزيوني أو النقاش اليومي.
3. تحويل الشعائر إلى استعراضات
– كثرة الضجيج، والتصوير، والمبالغة في الزينة الدينية والاجتماعية.
4. الحوارات الساخنة التي تتحول إلى مشادات أو قطيعة
– لأن كل طرف يُريد أن يفرض رأيه لا أن يقدمه.
5. فقدان القدرة على تقبّل الخسارة أو النقد أو الاختلاف
– وكأن كل خلاف هو إهانة.
ثالثًا: أسباب غياب ثقافة الاتزان
1. البيئة التربوية المنفعلة
– الطفل يُكافَأ عندما يصرخ ويبكي لا عندما يفكر بهدوء.
– العائلة تُصفّق للرد السريع لا للحوار المتزن.
2. النماذج العامة المتهورة
– لاعب الكرة الذي يشتم يُصبح قدوة.
– الإعلامي الذي يصرخ يُمنَح الشهرة.
– المتديّن الذي يُكفّر يُنظر إليه على أنه غيور.
3. الخطاب العام العاطفي
– الدين يُقدَّم كحالة وجدانية فقط لا كوعي أخلاقي عقلاني.
– السياسة تُمارَس من خلال التعبئة لا التوعية.
– الإعلام يُثير لا يُفكّر.
4. غياب التربية على الحُجّة والحوار
– التعليم يُلقّن، ولا يُربّي على النقد أو إدارة الخلاف.
– يتم تدريب الطالب على النجاح، لا على تقبُّل الرسوب.
رابعًا: سمات الإنسان المتّزن
1. هادئ في التعبير، لكنه لا يُساوم على الحق.
2. يحتفل باعتدال، لأنه يرى الإنجاز مسؤولية لا فقط فرحًا.
3. يتقبل النقد، ويعتبره فرصة للنمو.
4. لا يُبالغ في الظهور أو الاختفاء، بل يسلك طريق الوسط.
5. يُقيم الشعائر بمعناها لا بمظهرها.
خامسًا: كيف نُعيد الاتزان إلى حياتنا؟ يمكن إعادة الاتزان من خلال:
1. بناء الوعي من خلال التربية لا التلقين
– تعليم الأطفال كيف يُفرّقون بين الغضب المشروع والغضب الانفعالي.
2. عرض نماذج القدوة المتزنة في الإعلام والتعليم
– ليس من يصرخ أكثر هو الأصدق، بل من يُفكّر أكثر.
3. إعادة تأصيل المفاهيم الدينية والاجتماعية
– العبادة لا تعني فقط "الأداء"، بل "السكينة".
– الوطنية لا تعني الصراخ، بل السلوك الصادق.
4. تعزيز ثقافة الحجاج بدل ثقافة العنف
– عبر تعليم مهارات الحوار والتفاوض والنقاش المنطقي.
نماذج من الاتزان في القرآن الكريم والسنة النبوية:
أولًا: آيات قرآنية تعزز ثقافة الاتزان
1. الاتزان في القول والسلوك والانفعال
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ سورة فصلت: 34
دعوة إلى كظم الغيظ، والتعامل المتزن مع الخطأ والانفعال.
2. الاتزان في الغضب والمغفرة
قال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾سورة آل عمران: 134
تربية قرآنية على التحكم بالعواطف والغضب، وتجاوز الفعل الانفعالي.
3. الاتزان في الإنفاق وتجنب العشوائية الاقتصادية
قال تعالى:﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۝ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ سورة الإسراء: 26-27
نقد العشوائية في التصرّف المالي، ودعوة إلى ترشيد السلوك.
4. الاتزان في الحياة العامة (لا غلو ولا تقصير)
قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ سورة البقرة: 143
الوسطية تعني الاعتدال في جميع شؤون الحياة (اجتماعيًا، نفسيًا، سياسيًا).
5. التحذير من الانفعال والعجلة
قال تعالى : ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾ سورة الإسراء: 11
يبيّن القرآن الميل الفطري للعجلة، ويحضّ implicitly على مقاومته بالتأني.
ثانيًا: أحاديث نبوية تعزز ثقافة الاتزان وضبط النفس
1. ليس الشديد بالصرعة
قال ﷺ: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"
– صحيح البخاري (الحديث رقم: 6114)
– صحيح مسلم (الحديث رقم: 2609)
أعظم صور الاتزان: ضبط الغضب.
2. نهى عن الغضب المتكرر والانفعالي
جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال:
"يا رسول الله أوصني"، قال: "لا تغضب"، فردد مرارًا، قال: "لا تغضب".
– صحيح البخاري (الحديث رقم: 6116)
3. التأني من الله والعجلة من الشيطان
قال النبي ﷺ: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان"
- أصول الكافي ، الكليني: 313
– رواه البيهقي في شعب الإيمان، حديث رقم: 9313
4. سددوا وقاربوا
قال ﷺ:"إن الدين يُسر، ولن يُشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا..."
– صحيح البخاري، حديث رقم: 39
خطاب نَبَوي يدعو إلى الاعتدال والبعد عن التوتر والمغالاة.
5. اتزان العاطفة: أحبب حبيبك هونًا ما
قال ﷺ:"أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما"
-بحار الأنوار ، المجلسي :6/121
– رواه الترمذي، حديث رقم: 1997
في الختام ، الاتزان ليس ترفًا أخلاقيًا، بل ركيزة حضارية لإنقاذ الإنسان العربي من السطحية والانفعال والضجيج المجتمعي.
وإذا أردنا أن ننهض كمجتمعات، فلا بد أن نُعيد بناء الإنسان من الداخل، فنزرع فيه القوة الهادئة، لا الانفعال الصاخب، ونجعل الاتزان علامة على الرقي لا على الضعف، وعلى القوة لا على السلبية.فالعنوان يجد جذوره في:
التوجيهات القرآنية نحو الوسطية والاعتدال،
التوازن في القول والفعل والانفعال،
ضبط النفس، والوعي بالعواقب،
مقاومة العجلة، والتروي في الحكم ورد الفعل.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
1. صحيح البخاري – محمد بن إسماعيل البخاري
2. صحيح مسلم – مسلم بن الحجاج
3. سنن الترمذي – محمد بن عيسى الترمذي
4. أصول الكافي ، الكليني.
5. بحار الأنوار ، المجلسي.
6. صحيح الجامع – الألباني.
7. عمارة، محمد. الوسطية في القرآن والسنة.
8. الجابري، محمد عابد. تكوين العقل العربي.
9. عبد الكريم بكار. الوعي والتربية.
جامعة المستقبل الأولى على الجامعات الأهلية