انت الان في قسم علوم القرآن والتربية الاسلامية

خُدع البيان، ومزالق اللسان: المغالطات الحِجاجية في ميزان الوعي تاريخ الخبر: 30/07/2025 | المشاهدات: 7

مشاركة الخبر :

م. د أثير كريم الحسناوي ، تدريسي في قسم علوم القرآن والتربية الإسلامية في جامعة المستقبل
مغالطة ، سفسطة ، خداع ، تضليل ، حجاج ، إقناع ، تأثير، استغلال
مدخل :
يرجع تاريخ المغالطة إلى الفكر اليوناني القديم ، إذ ارتبطت بـ( السفسطائي)، و كانت تُطلق على الحرفي الماهر أو الفنان، إلاّ أنّ جهود كلّ من سقراط، وأفلاطون، وأرسطو ضد السفسطائيين قد أعطتهم صفة سلبيّة ، واتهمتهم باستعمال الكلام لتحريف الحقيقة (( ، عن طريق تشريع الألاعيب القوليّة، والحيل الخطابيّة، والخديعة والتغليط)) ( 1)، والمراد بالتغليط إيقاع الآخر فيه( 2)، فيكون مقصوداً ومبنياً على التدليس والتمويه والإخفاء(3 ) ، وترتبط المغالطة ارتباطاً وثيقاً بالممارسة الحجاجيّة، إذ ((لا تسلم أبداً من إمكان الانحراف لتسقط في صور مذمومة من السلوك الحجاجي ، أمّا بقصد أو بغير قصد))(4 )، إنّها "حجاج كاذب " أو " حجج معوجّة"(5 ) ، من الممكن أن تنزلق إليها أي ممارسة حجاجيّة، بسبب ما يحيط بها من معطيات، نفسيّة واجتماعيّة، لممارسة الخديعة في المقارعات الجدليّة(6 )،
منذ أن وضع أرسطو أسس المنطق والحجاج، كان التحذير من المغالطات جزءًا من تكوين التفكير السليم. فالمغالطة هي حُجّة تُستخدم بطريقة تبدو منطقية، لكنها تفتقر إلى صلاحية الاستدلال. وفي ظل الانتشار الكثيف لوسائل الاتصال الحديثة وتضخم الخطاب الجماهيري، أصبحت المغالطات سلاحًا فعّالًا في يد من يسعى للتأثير أو السيطرة أو الإقناع الأعمى، مما يفرض ضرورة الوعي بها ومواجهتها بالتحليل والنقد.
أولا: مفهوم المغالطة الحجاجية:
المغالطة الحجاجية هي حجة تبدو صحيحة في ظاهرها، لكنها غير سليمة من الناحية المنطقية أو الأخلاقية، وتُستخدم عادةً للتأثير على المتلقي دون أن تعتمد على حُجّة صادقة أو منطق سليم، ويمكن تصنيفها إلى:
١.مغالطات صورية (شكلية): تقع في بنية الاستدلال المنطقي.
٢.مغالطات غير صورية (مضمونية): تعتمد على التلاعب بالمحتوى والسياق.
ثانياً : أنواع المغالطات الحجاجية:
1. مغالطة الشخصنة (Ad Hominem)
وتعني هذه المغالطة الهجوم على الشخص بتخطي الأفكار إلى أصحابها، والتشكيك في كفاءتهم والطعن في سلوكهم ، بهدف الحط من قيمة المخالف والنيل منه
وصورتها العامّة:
زيد يطرح الفكرة(ف).
عمرو يقدح في زيد، أو يومئ إلى ظرف من ظروفه.
إذن الفكرة (ف) التي يدافع عنها زيد باطلة.
مثالها: "لا تستمعوا لرأيه في الاقتصاد، فهو فاشل في حياته الشخصية!"، المغالطة هنا أن الشخص قد يقدّم حجة صحيحة بغضّ النظر عن حياته الخاصة.
2. مغالطة الاحتكام إلى السلطة (Appeal to Authority)
وتكون هذه المغالطة بالاستناد إلى سلطة من نوع ما، قد تكون نظاماً أو نصّاً ، أو قانوناً، أو شخصاً، أو سلطة أهل العلم والاختصاص ، وصورتها:
الادّعاء بأنّ زيداً خبير في موضوع(ج).
-زيد يدافع عن الفكرة (ف) بخصوص الموضوع(ن).
- إذن الفكرة(ف) صادقة.
وتعمل على اعتبار الحُجّة صحيحة فقط لأنها صادرة عن شخصية مشهورة أو مرموقة.
مثالها :"قال الدكتور فلان إن لقاح كورونا لا ينفع، لذلك لا آخذ به."
السلطة وحدها لا تضمن صحة الحُجّة، إلا إذا كانت متخصصة في المجال.
3. مغالطة الاحتكام إلى العاطفة (Appeal to Emotion)
وتكون هذه المغالطة باستبدال الحُجّة العقلية بإثارة الخوف أو الشفقة أو الغضب، أي إثارة العواطف والانفعالات ، ومثالها: "إذا لم تصوت لي، فسوف يتشرد أطفالي!"
هذا ليس دليلًا عقلانيًا على كفاءة المرشح ، بل هو احتكام إلى العاطفة وهي مغالطة.
4. مغالطة التعميم المتسرّع (Hasty Generalization)
وتكون هذه المغالطة بإصدار حكم عام بناءً على حالات قليلة أو استثناءات، لتكون النتيجة شاملة للجميع ، ومثالها:"طالبان من الجامعة فشلا في العمل، إذن خريجو هذه الجامعة كلهم فاشلون."
هذا استدلال غير كافٍ لبناء تعميم على الجميع.
5. مغالطة رجل القش (Straw Man)
وتكون بتحريف موقف الخصم ثم مهاجمة التحريف ، أو بتهوين وتسخيف رأيه ليكون محط استهزاء وسخرية ، وأمثالها :
–الشخص الأول: "يجب تنظيم إنفاق الدولة."
– الشخص الثاني: "أنت تريد تدمير الخدمات العامة!"
لم يقل الشخص الأول ذلك، لكنه تم تحريف كلامه.
6. مغالطة الاحتكام إلى الجمهور (Bandwagon)
وتكون باعتبار الشيء صحيحًا فقط لأن أغلبية الناس تؤيده.
مثال:"الجميع يقول إن هذه الحمية مفيدة، إذن لا بد أنها فعالة."
رأي الأغلبية ليس حُجّة علمية ، ولا يمكن القطع بأن الكثرة دائما على صواب .
7. مغالطة السببية الزائفة (False Cause)
وهي المغالطة التي تقع بالربط بين حدثين دون دليل على أن أحدهما سبب للآخر.
مثال:"عندما بدأتُ بشرب القهوة، أصبحت أشعر بالصداع، إذن القهوة هي السبب."
قد يكون السبب شيئًا آخر ، إذا لا يوجد ربط عقلي ومنطقي حقيقي أن يثبت أن القهوة هي السبب.
8. مغالطة إما... أو (False Dichotomy / Black or White)
وتحدث عندما يحصر الموقف بين خيارين فقط وتجاهل البدائل.
مثال:"إما أن توافق على قراري أو أنك ضد الوطن."
هذا تبسيط مخلّ للموقف.
9. مغالطة المنحدر الزلق (Slippery Slope)
وهي مغالطة تفتراض أن خطوة صغيرة ستؤدي حتمًا إلى سلسلة من النتائج السلبية الكبيرة.
مثالها: "إذا سمحنا للطلاب باختيار الزي، سينتهي الأمر بانهيار النظام المدرسي."، افتراض غير مبرّر ، ولا مثبت علميا.
10. مغالطة الاستدلال الدائري (Circular Reasoning)
وهي المغالطة التي تسمى أحيانا بالمصادرة على المطلوب ، وذلك بتكرار الفكرة نفسها كدليل لإثباتها.
مثال:"القرآن معجِز لأنه كلام الله، وهو كلام الله لأنه معجِز."، الحجة تدور حول نفسها ، ولذا سميت بالحجة الدائرية.
ثالثا : لماذا يجب كشف المغالطات الحجاجية؟
لأنها تُستخدم لتضليل العقول وإقناعها بما لا يجب أن يُقبل عقلًا ، وتفيد في تحليل الخطاب السياسي والديني والإعلامي ، وتعلّمنا الحجاج المسؤول المبني على أدلة لا على خداع.
رابعاً: كيف نحمي أنفسنا من الوقوع فيها؟
1. بتعلّم المنطق غير الصوري (informal logic).
2. بممارسة التفكير النقدي.
3. بتمييز نوعية الدليل (هل هو عاطفي؟ منطقي؟ شخصي؟).
4. بطرح أسئلة مثل:
هل هذا استنتاج كافٍ؟
هل تم تحريف الموقف؟
ما مصدر المعلومة؟
هل يوجد تعميم غير دقيق
ختاماً ،إن الوعي بالمغالطات الحجاجية هو شرط أساسي لصيانة العقل، وحماية الخطاب، وبناء مجتمعات فاعلة واعية لا تُقاد بسهولة. وفي عصر المعلومات الزائفة، يصبح كشف المغالطات ممارسة أخلاقية ومعرفية، بل ومقاومة ثقافية ضد التزييف والإقناع القسري.
المصادر والمراجع:
(١) الحجاج والمغالطة، رشيد الراضي 49 .
(٢ ) يُنظر: الحجاج ، كريستيان بلانتان: 53 ، و السفسطات في المنطقيات المعاصرة التوجه التداولي الجدلي ضمن كتاب الحجاج مفهوم ومجالاته: 3/778.
( ٣) يُنظر: بلاغة الحجاج الأصول اليونانية ، الحسين بنو هاشم: 117 .
(٤) يُنظر: الحجاج والمغالطة : 12، والحجاج ، كريستيان بلانتان : 55.
(٥ ) يُنظر: السفسطات من منظور تداولي جدلي ضمن كتاب الحجاج مفهومه ومجالاته: 5\425، والسفسطات في المنطقيات المعاصرة ضمن كتاب الحجاج مفهومه ومجالاته: 3\788.
(٦ ) يُنظر: نظرية نسقيّة في الحجاج: 204 .
جامعة المستقبل الأولى على الجامعات الأهلية