اعداد م.م آمال محمد جابر
مقدمة: -
شهد علم النفس العام تطورًا ملحوظًا في العقود الأخيرة، حيث تجاوز التركيز الحصري على العمليات المعرفية أو الانفعالية كلٌ على حدة، ليتجه نحو رؤية تكاملية ترى في العقل البشري منظومة مترابطة تشمل التفكير، الشعور، والسلوك. إن العمليات المعرفية مثل الانتباه، والإدراك، والذاكرة، وحل المشكلات لا يمكن فهمها فهماً دقيقاً دون النظر إلى السياق الانفعالي الذي تجري فيه. وبالمثل، فإن الانفعالات ليست مجرد حالات شعورية منفصلة، بل تؤثر وتتأثر بالعمليات المعرفية. في هذا المقال، نسلط الضوء على طبيعة العلاقة بين العمليات المعرفية والانفعالية، ونتناول كيف يفسر علم النفس العام هذا التكامل، مدعومين بالأطر النظرية والبحوث التجريبية الحديثة.
أولاً: تعريف العمليات المعرفية والانفعالية
1. العمليات المعرفية:
تشير إلى سلسلة من النشاطات العقلية التي يستخدمها الفرد لاكتساب المعرفة وفهم العالم، وتشمل:
1.الانتباه:
هو القدرة على تركيز الذهن على مثير معين من بين عدة مثيرات موجودة في البيئة، ويُعد الانتباه شرطًا أساسيًا لبداية أي عملية معرفية أخرى.
2.الإدراك:
هو تفسير وتنظيم المعلومات الحسية التي تصل إلى الدماغ من خلال الحواس، بهدف تكوين صورة عقلية عن الأشياء والأحداث المحيطة.
3.الذاكرة:
هي القدرة على ترميز المعلومات وتخزينها واسترجاعها لاحقًا، وتنقسم إلى أنواع مثل الذاكرة قصيرة المدى، وطويلة المدى، والذاكرة العاملة.
4.اللغة:
تُعدّ اللغة أداة أساسية في التفكير والتعبير والتواصل، وتشمل فهم الكلمات، والتحدث، والقراءة، والكتابة.
5.حل المشكلات واتخاذ القرار:
هما عمليتان معرفيتان معقدتان، تتضمنان استخدام المعرفة السابقة، وتحليل المواقف، وتوليد حلول، واختيار البديل الأنسب من بين عدة خيارات ممكنة.
2. العمليات الانفعالية:
هي التجارب الذاتية المرتبطة بالمشاعر، وتشمل مشاعر مثل: الفرح، الحزن، الغضب، الخوف، وغيرها. وتؤثر في سلوك الإنسان وتواصله مع الآخرين، وتلعب دورًا محوريًا في التحفيز والتنظيم الذاتي.
ثانيًا: الأسس النظرية للتكامل بين المعرفة والانفعال
1. النموذج التفاعلي في علم النفس المعرفي الانفعالي:
يفترض أن العمليات المعرفية والانفعالية ليست نظامين منفصلين، بل يعملان بصورة متداخلة. الانفعالات تؤثر على إدراكنا للواقع، وعلى كيفية تفسيرنا للمواقف، مما ينعكس على قراراتنا وسلوكنا.
2. نظرية الذكاء العاطفي (Goleman, 1995):
أكدت على أن فهم الفرد لانفعالاته وإدارته لها، بالإضافة إلى قدرته على التعاطف وفهم مشاعر الآخرين، يعزز من قدراته المعرفية، خاصة في مواقف معقدة.
3. النموذج العصبي المعرفي:
أظهرت دراسات التصوير العصبي أن مناطق معينة في الدماغ مثل اللوزة الدماغية (Amygdala) تشارك في معالجة الانفعالات، بينما القشرة الجبهية الأمامية تشارك في المعالجة المعرفية، ويوجد بينهما تواصل عصبي مستمر.
ثالثًا: مظاهر التكامل بين العمليات المعرفية والانفعالية:
1. التعلم والانفعال:
تشير الأبحاث إلى أن المشاعر الإيجابية تعزز من التعلم، بينما المشاعر السلبية قد تؤدي إلى تثبيط بعض الوظائف المعرفية مثل التركيز والانتباه.
2. الذاكرة والانفعال
الخبرات الانفعالية الشديدة ترتبط بذكريات قوية وطويلة الأمد، وهو ما يفسره نشاط اللوزة الدماغية في ترميز الذكريات ذات الطابع العاطفي.
3. اتخاذ القرار
الانفعالات تلعب دوراً حاسماً في عملية اتخاذ القرار، كما أشارت نظرية Somatic Marker لـ Damasio، حيث تؤدي المشاعر دورًا توجيهيًا عند الاختيار بين البدائل.
رابعًا: التطبيقات العملية للتكامل المعرفي-الانفعالي:
1. في التعليم
تعزيز الجانب الانفعالي الإيجابي في البيئة الصفية يزيد من دافعية التعلم ويسهم في تقوية العمليات المعرفية مثل الانتباه والذاكرة والفهم.
2. في الصحة النفسية
العلاج المعرفي السلوكي (CBT) يجسد هذا التكامل من خلال تعديل الأفكار لتخفيف المشاعر السلبية، مما يحسّن السلوك العام للفرد.
3. في القيادة وصنع القرار
القادة الذين يتمتعون بذكاء انفعالي عالٍ يُظهرون قرارات أكثر توازنًا ومرونة، ويؤثرون بشكل إيجابي في بيئة العمل ويقللون من التوترات التنظيمية.
خامسًا: تحديات البحث في التكامل المعرفي-الانفعالي:
من التحديات البارزة:
التداخل بين الجوانب الذاتية (الخبرة الشعورية) والموضوعية (القياسات السلوكية والبيولوجية).
صعوبة دراسة العمليات اللاواعية.
الحاجة إلى أدوات تشخيص دقيقة لقياس التفاعل الدينامي بين الانفعالات والمعرفة.
خاتمة: -
يمثل التكامل بين العمليات المعرفية والانفعالية توجهًا علميًا معاصرًا يعكس الطبيعة الكلية للوظائف النفسية البشرية. وقد بينت الأدلة النظرية والتجريبية أن الإنسان لا يفكر فقط بعقله ولا يشعر فقط بقلبه، بل يتفاعل بذاته الكاملة مع العالم من حوله. ومن هنا، فإن التوجه نحو نماذج تفسيرية وتطبيقية شاملة لم يعد ترفاً فكرياً، بل ضرورة علمية لفهم الإنسان في كليته المعرفية-الانفعالية.
المراجع: -
1. Damasio, A. R. (1994). Descartes' Error: Emotion, Reason, and the Human Brain. New York: Avon Books.
2. Goleman, D. (1995). Emotional Intelligence: Why It Can Matter More Than IQ. New York: Bantam Books.
3. LeDoux, J. E. (2000). Emotion circuits in the brain. Annual Review of Neuroscience, 23, 155–184. https://doi.org/10.1146/annurev.neuro.23.1.155
4. Pessoa, L. (2008). On the relationship between emotion and cognition. Nature Reviews Neuroscience, 9(2), 148–158. https://doi.org/10.1038/nrn2317
5. Scherer, K. R. (2005). What are emotions? And how can they be measured? Social Science Information, 44(4), 695–729.
6. Pekrun, R. (2006). The control-value theory of achievement emotions: Assumptions, corollaries, and implications for educational research and practice. Educational Psychology Review, 18(4), 315–341.
7 Baddeley, A. (2003). Working memory: Looking back and looking forward. Nature Reviews Neuroscience, 4(10), 829–839.
(جامعة المستقبل هي الجامعة الاولى في العراق)