اعداد م.م لقاء عباس ظاهر
المقدمة
في تاريخ البشرية لحظات لا تشبه سواها، لحظاتٌ تحوّلت فيها الكلمة إلى سلاحٍ أمضى من السيف، واليقين إلى جبهة لا تنكسر أمام الطغيان، هكذا كانت خطبة السيدة زينب بنت علي عليها السلام في مجلس يزيد بن معاوية: كلمةٌ خرجت من قلب الأسر لتصير صوتًا أعلى من العروش، وصدى خالدًا يفضح الظلم ويُخلّد الحق، تهدف هذه المقالة إلى دراسة سياق الخطبة وبلاغتها وأثرها النفسي والسياسي في ذلك العصر وما بعده.
المحور الأول: الظروف التاريخية للخطبة
بعد مقتل الإمام الحسين (ع) وأنصاره في كربلاء سنة 61 هـ، ساق جيش يزيد نساء آل البيت وأطفالهم أسرى من الكوفة إلى دمشق هناك، في قصر يزيد، عُرضت رؤوس الشهداء على الرماح، وجُمعت السبايا بين يدي الطاغية الذي ظن أن بإمكانه كسر عزتهم وإسكات صوتهم، لكن الموقف انقلب حين وقفت زينب عليها السلام في ذلك المجلس لتقول كلمة الحق، فحوّلت لحظة الأسر إلى إعلان خلود رسالتهم.
الإرشاد للشيخ المفيد، ج2، ص118
المحور الثاني: بلاغة الخطبة وجمالها الأدبي
جاءت خطبة السيدة زينب معجونة بروح القرآن، مملوءة بالوعي والعزة والتحدي، استعملت أساليب بلاغية قوية:
- الاستفهام الاستنكاري:
,,أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة؟,,
- التوبيخ والتقريع المباشر:
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟
- التحدي الصريح:
“فكد كيدك واسع سعيك… فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا.”
اللهوف على قتلى الطفوف، ص185–186
هذه العبارات لم تكن مجرد شجاعة لفظية، بل إعلانًا تاريخيًا أن دين جدها باقٍ، وأن ما ظنه يزيد انتصارًا ما هو إلا بداية انكساره المعنوي.
المحور الثالث: أثر الخطبة في نفوس الحاضرين والتاريخ
هزّت هذه الكلمات أركان مجلس يزيد، وتحوّل الصمت إلى وجوم وارتباك ، بعض المؤرخين يذكرون أن يزيد حاول التخفيف من وقعها باللجوء إلى التهكم، لكن صدى الخطبة سبق تهكّمه وظلّ خالدًا عبر القرون، لقد ساهمت الخطبة في فضح مشروع التزييف الأموي وإيقاظ الوعي الشعبي بأن بيت النبوة لا يُقهر وأن الحق لا يموت.
بحار الأنوار، ج45، ص136
المحور الرابع: المضامين التربوية والأخلاقية في خطبة السيدة زينب عليها السلام
لم تكن خطبة السيدة زينب عليها السلام مجرد احتجاج على طغيان يزيد أو بيانًا سياسيًا وقتيًا، بل حملت في أعماقها قيَمًا تربوية وأخلاقية رفيعة تصلح لتكون دستورًا للأجيال في مواجهة المحن والظلم.
ومن أبرز هذه المضامين:
1. الصبر والثبات
أظهرت الخطبة إنموذجًا راقيًا للصبر على أشد الابتلاءات، إذ لم تنطق بكلمة ضعف رغم عظم الفاجعة بفقد الأهل والأصحاب، بل بدت كلماتها مفعمة باليقين حين قالت:
“فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا.”
لتعلّم الأمة أن الثبات على المبدأ هو أساس العزة.
2. العزة والكرامة الإنسانية
في أوج الأسر والقيود، خاطبت يزيد من موقع العزة لا الذل:
أمن العدل يا ابن الطلقاء تسريبك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟”'
لتثبت أن الكرامة لا تسقط بالسبي، بل تبقى مادام الإنسان مؤمنًا بحقه وقضيته.
3. استحضار القيم القرآنية
استشهدت بالآيات المباركة في مواجهة الطغيان، لتبين أن بقاء الظالمين لا يعني انتصارهم:
"وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ"
وفي ذلك تربية للأمة على الارتباط الدائم بالقرآن الكريم في الشدائد.
4. تحمّل المسؤولية الأخلاقية
وجّهت خطابها للمجتمع كلّه، محمّلة الأمة مسؤولية الصمت والتقصير في نصرة الحق:
"وكأنك يا يزيد تستصغر قدر الله وتستعظم نفسك…''
لتوقظ الضمير الجمعي وتُربي الناس على أن لا يكونوا شهود زور أمام الظلم.
5. التوكل على الله
كلماتها كانت تنضح بالثقة بالله تعالى، مؤكدة أن النصر الحقيقي لا تصنعه العروش:
فتعلّم النفوس أن الاعتماد على الله يعلو على كل أسباب القوة المادية.
6. شجاعة الصدع بالحق
لم يمنعها الخوف ولا الأسر من أن تقول كلمة الحق بوضوح تام، فتكون قدوة للأجيال في الجرأة الأدبية:
وتغرس في القلوب أن مواجهة الظالمين واجب لا يسقط أمام التهديد.
المحور الخامس: المضامين النفسية والاجتماعية في الخطبة
لم تكن خطبة السيدة زينب عليها السلام مجرد احتجاج عابر على طغيان يزيد، بل كانت صوتًا يلامس أعماق النفوس ويحرك ضمير المجتمع، ففي كل عبارة تومض مضامين نفسية واجتماعية رسمت ملامح العزة والصبر والثورة الصامتة.
1. استدعاء العزة الداخلية وكسر حاجز الخوف
حين قالت:
“أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض… أن بنا على الله هوانًا وبك عليه كرامة؟”
كانت تبث في نفوس الأسرى والحاضرين يقينًا عميقًا بأن سلطان الطاغية وهم، وأن الكرامة لا تُسلب من قلوب الأحرار.
2. زلزلة نفسية لهيبة الجبروت
كلماتها أربكت يزيد، وجعلته رغم عرشه يتوارى خلف سطوته العاجزة:
“فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا.”
في هذا التحدي شجاعة تُفقد الجلادين يقينهم بالنصر.
3. بعث التضامن والوعي الجماعي:
حين استحضرت نسبها الشريف بقولها:
،،أمن العدل يا ابن الطلقاء…،،
لم تكن تفتخر بنسب موروث فحسب، بل تذكّر الأمة كلها بميثاقها الأخلاقي إتجاه عترة النبي صلى الله عليه وآله، وتربطهم برابطة الولاء والوفاء.
4. احتضان جراح القلوب وإعلاء روح الصبر
كان وقع الخطبة على قلوب النساء والأيتام بلسمًا يخفف أوجاع الهزيمة الظاهرة، ويحوّل الألم إلى شرف وصبر يورث القوة:
“فما رأيت إلا جميلًا…”
بهذه العبارة العظيمة حين سئلت عن كربلاء، أعطت الدنيا كلها درسًا في السكينة والتسليم لقدر الله.
5. تربية النفوس على تحويل الألم إلى طاقة بناء:
من بين الخراب والدموع، كانت كلماتها ترفع الهمم:
أن الهزيمة الحقيقية هي هزيمة الروح، لا ضياع الوطن ولا فناء الجسد.
6. إيقاظ الضمير الاجتماعي:
خطبتها لم تكن سرًا بينهم، بل صرخة للناس جميعًا كي يفيقوا من غفلتهم ويعرفوا حقائق الطغيان والظلم، فتتحرك فيهم شهامة الإنسانية
الخاتمة:
هكذا تحوّلت امرأة أسيرة إلى رمزٍ خالد يعلّم الأجيال أن الكلمة قد ترفع صاحبها فوق العروش والتيجان، خطبة السيدة زينب لم تكن مجرد احتجاج، بل كانت صوتًا أعلى من العروش، شهادة على أن عزة الإيمان أسمى من سلطان القوة، وأن التاريخ لا يخلّد إلا من انتصر للحق حين صمت الآخرون.
المصادر
القرآن الكريم
1. الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2.
2. ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف.
3. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج45
( جامعة المستقبل هي الجامعة الاولى في العراق )