بقلم : م.م علي يوسف علي
في بدايات القرن العشرين، تبلورت مفاهيم الإدارة الأولى من خلال المدرسة الكلاسيكية التي سعت إلى إيجاد طرق منهجية لزيادة الكفاءة والإنتاجية. كانت النظرة السائدة آنذاك ترى المنظمة كمجموعة من المهام والوظائف ينبغي تنظيمها بدقة، وكان التركيز موجّهًا نحو هيكلة العمل وتقسيمه بشكل علمي، حيث يُعامل العامل كأداة في سلسلة إنتاج. فريدريك تايلور، على سبيل المثال، دعا إلى الإدارة العلمية لتقنين الأداء، بينما وضع هنري فايول مبادئ عامة لتنظيم العمل، وركّز ماكس ويبر على النظام البيروقراطي كوسيلة لتحقيق الانضباط والاستقرار التنظيمي.
مع تقدم الزمن وتغير البيئة الاجتماعية والاقتصادية، ظهرت المدرسة السلوكية كرد فعل على جمود الفكر الكلاسيكي. بدأت هذه المدرسة ترى الإنسان العامل ليس كعنصر إنتاج فحسب، بل ككائن اجتماعي يتأثر بالدوافع والعلاقات والأجواء المحيطة به. فأظهرت تجارب هاوثورن، بقيادة إلتون مايو، أن تحسين أداء العامل لا يرتبط فقط بالظروف المادية، بل بالدعم الاجتماعي والاعتراف الإنساني. ثم جاءت أفكار ماري باركر فوليت، التي دعت إلى القيادة التشاركية واعتبرت أن الإدارة الناجحة تقوم على التكامل وليس السيطرة، وتوسّع دوغلاس ماكغريغور في فهم الدوافع من خلال نظريته الشهيرة "X وY" التي قدمت نظرتين متباينتين لطبيعة العامل.
وبين هذين التيارين، يتضح أن الفكر الإداري لم يكن ثابتًا، بل مرنًا يتطور استجابة لمتغيرات العصر. فبينما ركزت المدرسة الكلاسيكية على التنظيم والسيطرة كوسيلة لتحقيق الكفاءة، أعطت المدرسة السلوكية الأولوية للفرد والبيئة النفسية والاجتماعية التي يعمل فيها. غير أن الواقع المعاصر يُشير إلى أن أي إدارة ناجحة تحتاج إلى مزج منظم بين منهجية الكلاسيكيين وحسّ السلوكيين. فالحزم وحده قد يولد الجمود، كما أن المراعاة الزائدة للفرد دون نظام قد تؤدي إلى الفوضى.
وفي عالم الإدارة المعاصر، لا يمكن تجاهل أن المنظمات اليوم تواجه تحديات أكثر تعقيدًا من مجرد زيادة الإنتاجية أو تحسين بيئة العمل. من هنا برزت الحاجة إلى نموذج إداري "هجيني"، يجمع بين التفكير المنهجي الذي دعت إليه المدرسة الكلاسيكية، والاهتمام بالعنصر البشري الذي أكدته المدرسة السلوكية. فالمؤسسات التي تطبق مبادئ Lean وTQM، على سبيل المثال، لا تكتفي بتقليل الهدر وتحسين العمليات، بل تضع الموظف في قلب منظومة التحسين المستمر، وتدرك أن التمكين والمشاركة هما وقود التغيير الحقيقي. هكذا نجد أن المزج الذكي بين النظام والمرونة، بين الكفاءة والعلاقات الإنسانية، لم يعد خيارًا، بل هو شرط أساسي للنجاح والاستدامة.
هكذا، تبقى الإدارة مزيجًا متوازنًا من هيكل وانتماء، من قواعد ومشاعر، من عقل ومن قلب. وهذا التوازن هو سر النجاح الحقيقي في بيئات العمل المعاصرة.